حين احتاجت رئتاها إلى تدخل جراحي قبل أكثر من 60 عامًا، وجدت في مشرط “أرامكو” خلاصها، فقد بدأت بشق شرايينها وعروقها، حتى لا تختنق بالزائد من مائها، وحتى لا يموت اخضرار واحتها من كثرة الماء، فالمثل يقول: “الزايد أخو الناقص”، إلا أنها قبل خمس سنوات تقريبًا بدأت تفقد تلك الشرايين واحدًا تلو آخر، حتى طمرت ولم يبق من هذا الشريان سوى جزء بسيط بين قريتي أم الحمام وحلة محيش.
المصارف الزراعية، تلك الخطة العلاجية التي اقترحتها شركة الزيوت العربية الأمريكية “أرامكو”، كدراسة علمية لزيادة منسوب المياة في أرض القطيف، تفاجأت المحافظة بدفنها من قبل البلدية، لتفتقر تلك الأرض إلى كثير من خضرتها بعد أن كانت بصمة خاصة بها.
بداية الفكرة
اعتمدت القطيف في الماضي على الآبار المحفورة باليد إلى أعماق لا تتجاوز مائة قدم، وعلى بعض العيون الموزعة هنا وهناك في أماكن متفرقة من الواحة، ولم تكن هذه المصادر المائية المحدودة لتؤثر في ذلك الوقت على منسوب المياه الجوفية، إلا أن الحالة بدأت تتغير بعد أن قام المزارعون بحفر الآبار الارتوازية في السنوات الأخيرة، وقد غرب عن ذهن المزارع أهمية هذه المياه بالنسبة لمنطقة تحيط بها الصحراء، كما غرب عن ذهنه أيضًا الأضرار التي يمكن أن تحصل نتيجة عدم التحكم في المياه التي تنساب من الآبار ليل نهار دونما توقف.
ذلك التدفق نتج عنه تطور في الأوضاع الزراعية في منطقة القطيف، بصورة معاكسة لمصلحة المزارع؛ فنسبة المياه التي تتدفق على الأرض الزراعية أكثر بكثير من احتياجها، كما أنها لا تستطيع تصريفه؛ لذلك بدأت الأراضي تتشبع بالمياه التي أخذت تقترب من السطح؛ حتى وصلت إلى طبقة الجذور، ونتج عن ذلك تراكم الأملاح القلوية في هذه المنطقة، وعلى سطح التربة بسبب عامل التبخر، كما نتج عنها أيضًا نقص في الهواء، ونقص في خصوبة التربة؛ لذلك هبطت طاقة التربة الإنتاجية، فقلَّ الإنتاج، وتدنَّت جودة المحاصيل، وأصبح من الصعب على المزارع تأمين الدخل الكافي لمعيشته.
وضع خطر وحلول
وفقًا لتقرير نشرته شركة أرامكو في شهر ربيع الأول عام 1384هـ؛ فإن المسؤولين في وزارة الزراعة، وشركة الزيوت العربية الأمريكية شعروا بخطورة الوضع الذي بدأت تعيشه، وما يمكن أن يؤول إليه فيما لو بقيت الحالة على ما هي عليه، فقامت شركة الزيوت العربية الأمريكية بدراسة علمية وافية للمشكلة، رفعتها فيما بعد إلى وزارة الزراعة بشكل تقرير مفصّل عن الطرق الممكن اتّباعها لحل هذه المشكلة.
وذكر التقرير أن وزارة الزراعة لم تقصر في هذا المضمار، بل رصدت مبالغ ضخمة لمشروع تصريف المياه، وفي مدة قصيرة قارب العمل على الانتهاء، وبدأت الحياة تدبُّ من جديد في منطقة واسعة تُقدَّر بآلاف الأفدنة، وأخذ المزارعون يشعرون بتحسُّن طاقة الأرض الإنتاجية، بعد أن أخذت نسبة الأملاح في الهبوط، وبعض التحسُّن في جودة الإنتاج.
نتائج
وبين أن أهم نتائج هذا المشروع القضاء ـ في أماكن عديدة ـ على مستنقعات كانت مصدرًا للبعوض الذي ينقل مرض الملاريا، وعامل مهم آخر نتج عن هذا المشروع ـ وسيكون له الأثر الكبير في تطوير الزراعة في منطقة القطيف ـ هو الطرق التي شُقّت على جانبي المصارف، وسهلت على السيارات أمر الوصول إلى أكثر المزارع؛ مما يساعد في المستقبل على نقل الإنتاج بطريقة سهلة، ويُمكّن المزارع من توسيع إنتاجه إلى درجة كانت تصعب عليه في الماضي؛ وذلك لعدم توفُّر وسائل النقل الحديثة اللازمة لنقل الكميات الكبيرة من المحصول.
وأكد أن الذي يتعمق في دراسة النتائج والإمكانات الكامنة في هذا المشروع؛ يستطيع تقدير ما يمكن أن تصبح عليه الزراعة في المنطقة الشرقية في السنوات العشر القادمة، إلا أن ذلك لا يتأتّى للمزارعين إلا متى خطوا خطوات ثابتة في سبيل استصلاح الأراضي التي يمكن أن تستفيد من مثل هذا المشروع، وهي تشمل أكثر أراضي الواحة الزراعية.
تكاليف
لقد صرفت وزارة الزراعة الأموال الطائلة على هذا المشروع؛ لتفسح المجال أمام المزارعين للاستفادة منه بشكل يعود عليهم بأموال أكثر بكثير من الأموال التي صُرفت، وسوف يحزُّ في نفس الوزارة، وفي نفوس المخلصين من أبناء البلاد متى ما رأوا هذا المشروع يعمل دون طاقاته.
ولقد برهن المشروع على جدواه وجفف كثيرًا من مياه الأراضي الواقعة على جانبيه، ولا سيما تلك التي كانت وما زالت خالية من الزراعة.
وذكر التقرير أن الشيء الوحيد الذي يبرر صرف الأموال الطائلة التي استلزمها المشروع، هو أنها تعود بالفائدة والخير على المزارع، وتدر أضعاف أضعاف الأموال التي صرفت على تنفيذه.
تلبية لرغبات المزارعين
يختتم التقرير بـ”هذا المشروع قد نُفذ تلبية لرغبات سكان المنطقة من مزارعين وغير مزارعين، وأن الأموال التي صرفت على هذا المشروع لم تُصرف إلا لشعور المسؤولين بأن المزارع ينتظر يد العون من الوزارة لإنقاذه من خطر هو أضعف ماديًا من أن يقوم بتلافيه”.
ويتابع: “الآن، وبعد أن تم للمزارع ما أراد، فإن الجميع يتطلعون إلى رد الفعل عنده، ويأملون أن يروه قد شمر عن ساعد الجد وشرع يعني بالأرض التي طالما تمنى أن يراها تثمر وتعطي أطيب أكلها”.
ماذا بعد؟!
بعد أن بدأت تختفي هذه المصارف من الخارطة الجعرافية لمحافظة القطيف، شهدت المنطقة توديعًا خاصًا لمصارفها الزراعية ١٤٣٥هـ، بعد أن قررت بلدية القطيف تغطية آخر ما تبقى منها، فقد نظم مجموعة من المصورين جولات فوتوغرافية خاصة لالتقاط صور لها، ليخلدوا بها تاريخًا شهد على اخضرار المنطقة ووفرة محاصيلها الزراعية، وأحد شواهد آخر ما تبقى من الواحة الغنّاء.
وبعد أن كانت القطيف واحة مكتظة بنخيلها وأشجارها تحولت أغلب أرضها إلى ممرات خرسانية مسفلتة، وبعد أن كانت شريانًا تتنفس منه تربتها، غدت شريانًا نابضًا للمركبات، وممرات ربط بين بلدة وأخرى تختصر المسافة على السائق، أو تكون حلًا للهارب من ازدحام الشوارع الرئيسية.
صور من أرشيف الأستاذ طاهر العلي
صور مصدرها إعلام أرامكو