تبدأ فكرة “المعروض” الذي تنكشف فيه حاجاتنا وشكوانا خارج ذواتنا في اللحظة التي نولد فيها، فليس بُكاؤنا إلا نوع من عرض الطلب، أو الشكوى في لغةِ الألم، فنحن في صغرنا لم نعرف بعد الكتابة وانتقاء الجمل والكلمات التي تجلب لنا ما نبتغيه. نكبر قليلاً فتكثر حاجاتنا وتطول قائمةُ “المعاريض” وتكون الكلمات جزءًا منها، كلمةٌ واحدة ثم اثنتان ثم سطر ثم صفحة، وكلما كثرت وصعبت الحاجات امتلأت الصفحةُ بكلمات التعطف وشرح الحال.
مطالبنا ترتقي في تعقيداتها، الأكل والشرب ثم الملبس والبهجة ثم المدرسة والعمل والأولاد والدواء، ولا تنتهي إلا حين تنام أجسادنا في التراب. تأتي المطالب بنتائج أفضل كلما كانت الكلمات أجمل، وأفضل النتائج يكون عندما يكتب في أعلى الصفحة “نفذوا المطلوب”. وقد لا تنفعنا معاريض الحياة في شيء عندما لا تصل الكلمات إلى قلب متلقيها.
هناك وجهةٌ واحدة فقط تحثنا على الدوام أن نخاطبها ونرجوا منها وتطلب منا أن نرفع لها حاجاتنا! ولا يهمها إن كبرت حاجاتنا أم صغرت فتلك الوجهة تقول “هي عندي”. تلك الوجهة هي “الله”. مشكلتنا أننا نغفل عنها في عهدِ الشباب والقوة وفي وقت الرخاء، نقطع العلاقة بتلك القوة ولا نطلب منها ولا نكلمها إلا حين تضيق بنا الحيل! تلك القوة الفاعلة تستحق أن نكتبَ لها ونقول لها أجمل الكلمات، وفي سكرة الغفلة تأخذنا الماديات بعيداً عنها ونطلب مما في أيدي الناس. تلك الجهة إن عجزنا أن نطلب منها في كلماتِ الأنبياء والأوصياء وفي كلماتها التي قالتها لنا، يكفي أن نقول ونكتب لها كلمتين “يا الله”، وهي تقول: “أستجب لكم” وأعطيكم!
أنا وأنت، كثرت وكبرت حاجاتنا، فلم تعد سوى تلك القوة قادرة أن تلبيها. في ليلِ الشتاء الطويل متسع أن نئنَّ لها ونبكي ونَحُنَّ لها ونشكو ما فعلت بنا الأيام، نقرأ لها مطالبنا التي تعرفها سلفاً ثم ننتظر، فمن المؤكد أن بعد كل ليلٍ فجرًا وبعد كل ظلامٍ ضياء! أنا وأنت مهما كان عمرنا فليس أنفع لنا من لغةِ الطفولةِ والبراءة والبكاء في تقديم “معاريضنا”، لغةٌ نفعتنا في جلب أعظم حاجاتِ الجسد صغاراً وتنقذنا في أعظم حاجاتِ الجسد والروح كبارا.
إن كان في ظلامِ وهدوء الليل سعة، فليكن فيما فعل النبي موسى (ع) لنا قدوة حين سألهُ ربه تعالى وهو العالم {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ} [طه: ١٧]، فلم يكتف بقوله “هي عصاي”. بل أطنبَ في أوصافها وخواصِّها رغبةً منه وطلباً في الاستزادة من مناجاةِ المحبوب.
أفضل وصفة “للمعاريض” أن تكتبها في أجمل الكلمات وأنت في أصفى الحالات، واثقٌ من أنَّ شكواك وطلبك سوف يأتي ولو بعد حين. ثقّلها وكبّرها واكتبها قبل أن يمرَّ العمرُ سريعاً!