في كلِّ مرة أفر فيها من بين جدران داري أنظر في قارئ درجةِ حرارة الجو، داخل السيارة، الذي في مثلِ هذه الأيام يقرأ ما بين العشرين والخمسة وعشرين درجة مئوية. يحثني هذا الرقمُ العشريني على أن أغتنمَ الفرصة واستلطف الرِّيحَ والنسائم الليِّنة التي لا تحرِّك شجرًا ولا تُعَفِّي أَثرًا، فأفتح نافذةَ السيارة. يشاركني الطريق كلَّ مرة آخرون من كلِّ الأعمار، لكن متعة الكثير منهم تفوق متعتي! في هندامٍ جميل وسيارة فارهة وبين أصابعهم سيجارة ينفخون الدخان منها خارج النافذة وكأنهم يبثونَ همومَ الدنيا مع كل نَفَسٍ يطردونه في الهواء الطلق. حالما تنتهي تلك السيجارة ينتقمون منها ويرمون ما بقي منها في الشارع تذهب أينما تحملها الريح!
لذة التدخين من اللذات التي حرمتُ نفسي منها ويعود فضل الحرمان منها لأمي فكم تمنيت أني أطعتها في كلِّ أمر أمرتني به! لذة أغبط عليها كلَّ من يدخن فهي كما وصفوها تفوق لذةَ العصيد، المحلى بالسمن البلدي، في صباحِ الشتاء البارد. أرجو أن تطولَ بهم الصحة والمال حتى تدوم تلك المتعة. وأطالب كلَّ من يدخن ألاَّ يشاركني ومن لا يدخنون هذه المتعة ويحتفظ بها كلها لنفسه.
اختفت أعقاب السجائر تقريباً من كلِّ البلدان والشوارع، وآن الأوان أن تختفيَ من شوارعنا ومن بيئتنا، حيث يوجد في كلِّ سيارة مكان يضع فيه الراكب والسائق أعقابَ السجائر، يجمعها ثم يرميها متى ما أراد في المكان الذي يليق أن تكون فيه “القمامة”.
طلب غير المدخنين وأنا منهم ليس أنانيةً، بل مودةَ أن يكون لهم هواءٌ نظيف يستمتعون به في أيامٍ معدودات في السنة مشياً أو في السيارة، وشارع خالٍ من أغلفة وأعقاب السجائر، ولأن من لم يجرب لذةَ التدخين أبداً يشم رائحته من بعيد، رائحة قوية ولا تشبه رائحةَ العطر أو الورود. أنا أعرف أن همومَ الدنيا تكاثرت، دخّن وارتح إن كان يشعرك بالسعادة، سأشاركك الهم، لكن لا تشاركني رائحةَ السيجارة ولا ترمي أعقابَ السجائر على بابِ داري أو في الشارع.
نحن في بدايات فصل الشتاء وبعد أيامٍ سوف تبرد الدنيا أكثر، إن اشتقت إلى رائحةِ النار والدخان فليس أجمل من لمة المساء مع من تحب من الأهلِ والسمار ورائحة دخان نار المدفأة. جربها سوف تحبها أكثر من نار السجائر التي تحرق زهرةَ شبابك وتحرق ما في جيبكَ من نقود. وإن كنت ممن لا يطيق فراقاً لمن يهوى فقبلها وشمها في الخفاءِ دون أن يرى غيرك ويشم من تحب وتشم.
طفلتك وعرسك يستحقان أن يكون لهما نَفَسٌ أضوع من رائحةِ دخان السيجارة!