بـ23 لوحة و9 منحوتات.. هجلس يعيد زوار «ساف» إلى تاريخ القطيف القديم

على امتداد شارع القدس حيث قاعة الميزانين، في مساء 28 نوفمبر 2019م، أعادت القاعة زوارها إلى زمن الأجداد المعطر برائحة الطين، باحترافية المصور الفوتوغرافي والنحات إسماعيل هجلس، الذي أطر الماضي الجميل من خلال منازل هجرتها أعين الناس واهتمامهم، لترسم تفاصيلها بكل دقة من خلال مجموعة صورٍ ضمت نقوش جدران تلك المنازل وأقواسها، وبعض الممرات الضيقة التي تحكي تاريخًا شارف أن يغيب من ذاكرة أبناء القطيف.

وقد استطاعت التقاطات “هجلس” أن تحول الغبار والصدأ في تلك الصور إلى توقيع يحكي تاريخ هجرانها، كما تمكنت من أن تعيد الزوار إلى ذلك التاريخ حتى استشعروا وكأنهم مازالوا يسيرون بين تلك الأزقة و”الزرانيق”.

وفي رصد لفعاليات اللقاء الثاني بين الزمنين، أو بالأحرى المعرض الشخصي الثاني للفنان هجلس، سيجد الزائر أن “هجلس” اتخذ لنفسه مسار إحياء التراث المعماري للقطيف، وقد جمع ذلك في 23 لوحة و9 منحوتات.

وأوضح “هجلس” لـ«القطيف اليوم» أن المعرض يهتم بعمارة منطقة القطيف تحديدًا، دون استثناء أي منطقة، مبينًا أن الفكرة كانت وليدة عام 2017، وتحولت إلى فكرة جادة بتشجيع عدد من الفوتوغرافيين ومشاركاتهم في نهاية عام 2018.

دليل الماضي
لم يذهب الفوتوغرافي “هجلس” إلى أي منطقة إلا بمصاحبة دليل، وقد زار العديد من المناطق؛ كأم الساهك، والدريدي وأبو معن، بالتحديد المناطق القديمة في الديرة، من سنابس، والربيعية، وتاروت، وكل منطقة كان يتوقع وجود بيوت قديمة فيها، كان يذهب إليها لتصويرها.

وعن أقدم البيوت التي قام بتصويرها، ذكر أنها الموجودة في حي الديرة في تاروت، والقلعة في القطيف، وبحسب المستندات التي اطلع عليها، تفاجأ بأن أحد الصكوك يعود إلى ما قبل 350 سنة، ويعتقد أنه أقدم من ذلك التاريخ.

كلهم أبنائي
وحول سؤاله عن أقرب الصور إلى نفسه، أجاب: ”كل الصور مهمة بالنسبة لي، كل صورة لها حكاية، لذلك أهتم بتعريف الصورة، وكأنها “ابن” أحرص على تسميته وتوصيفه”.

سيف الوقت
أما عن المصاعب التي واجهها خلال جولاته الفوتوغرافية لتوثيق تلك المنازل، قال: “المصاعب تتمثل في الوقت، الذي كان يداهمني، خاصة أن الأماكن القديمة تحتاج إلى الضوء لأتمكن من تصويرها، والاستئذان من أصحابها، حتى المهجورة لابد من الإذن، أحيانًا كنت أنتظر لمدة أسبوع حتى يصلني الإذن بالدخول والتصوير”.

المواقف
خلال تلك الجولات في مختلف المناطق القديمة، والمهجورة أحيانًا، تعرض “هجلس” لمواقف مختلفة، واسترجع لنا واحدًا من تلك المواقف الطريف: “كنت أذهب للتصوير ظهرًا، حيث تخلو المناطق من المارة تقريبًا، دخلت بيتًا وكانت الغرفة نازلة كأنها سرداب، عندما نزلت على السلم المعدن، استشعرت شيئًا ما يتحرك فوق رأسي، ثعبان من الأنواع الشديدة السمية، التي تعيش في الأماكن المهجورة، سيطرت عليّ حالة من الوهم المرعب، جعلتني أتحرك بحذر شديد، وفتحت كشاف الجوال، لأكتشف أنه سلك اللمبة القديمة، وليس ثعبانًا!”.

ملامح وطن
لم يكتفِ الفنان بتوثيق مشاهداته وشغفه بالصور والنحت، ولكن أيضًا يجهز لمشروع عبارة عن سلسة من الكتب تحمل عنوان “ملامح وطن”، وأوضح لـ«القطيف اليوم»، أنه يعمل حاليًا على كتاب يتحدث عن تفاصيل البيت القطيفي اسمه “رواق وضوء”، وكتاب ثالث هو الأهم، بعد أن زار حوالي 30 مدينة في المملكة، ودخل أماكن عادة لا يدخلها أحد، هذا الكتاب ضمن سلسلة “ملامح وطن”، اسمه “الديرة”.

وأضاف: “اخترت اسم الديرة لأنه الاسم الشائع للأماكن التراثية أو القديمة في أي منطقة بالمملكة، فكل منطقة لها “ديرة”، وهو مشروع كبير بالنسبة لي، وهدفي منه أن أضع بصمة لتعريف ملامح هذه الأرض الطيبة”.

المنحوتات
وكما لفت المعرض زواره بالصورة التاريخية الآخذة، جذبتهم تلك المنحوتات، التي ينقل فيها الفنان جماليات البيت القطيفي، وهي تسع منحوتات، مصنوعة من حجر جيري كلسي، قريب مما كان يستخدمه الأجداد في الجص.

وتحدث “هجلس” عن تلك المنحوتات بقوله: الحجر عازل كويتي، وفي نحت الأعمال أعمل على الجهات الأربع، كل جهة عليها شكل مختلف، ثم أعالجها بمادة كيمائية لتحويل الجير إلى شكل حجر، وأستوحي الأفكار من بيوت الأجداد، وكثير من الأفكار تكون مرتجلة”.

وأضاف: “بعض المنحوتات تستغرق أسبوعًا لتنفيذها، وبعضها أنتهي منه في نفس اليوم، وحينئذ أستمر في العمل عليها من 8 إلى 10 ساعات”.

روعة الماضي
وشمل المعرض توقيعًا لكتابه “روعة الماضي وجلال القدم”، لمن فاته الكتاب في المعرض الأول.

وفي حديثه عن الكتاب قال: “عنوان الكتاب مأخوذ من كتاب الأديب محمد سعيد المسلم، ويتكلم عن تاريخ القطيف القديم، من خلال روايات المؤرخين القدامى، حتى أني لم أنسب المعلومات لمؤرخ بعينه، فهو يضم أبحاثًا لكل من؛ عبد الخالق الجنبي، والدكتور منصور القطري، ونزار عبد الجبار، المهندسة ليلى عبد الجبار، والدكتور صالح الزاير، المهندس خاتون الجشي، والفوتغرافي محمد الخراري، وجميعهم مؤرخون وأكاديميون، شاركوا الكتاب في محتواه”.

الساف
ومن صاحب العرس الفني إلى الزوار، التقت «القطيف اليوم» عددًا منهم، وأوضح أحدهم تفسيرًا لكلمة “ساف”، التي لاحظ أن البعض يرددها ولم يفهم معناها، وقال: “البعض يعتقد أن كلمة “ساف” كلمة أجنبية، ولكنها من مفردات البناء القطيفي، وجمعها “سافات”، وهي مفردة محلية، ويعرفها أبناء الخليج أيضًا، وتعني صفًا من الحجارة البحرية أو المرجانية الأفقية، يليه كتلة من الطين أو الجص، لتكتمل سيمفونية الجدار”.

تغذية بصرية
ومن الحضور كان عبد الله حسن مهدي آل شهاب، من أم الحمام، الذي قال: “أرحب بمثل هذا النمط من المعارض، لأننا نحتاج هذه التغذية البصرية والنفسية، من خلال الصور القديمة التي تحكي حقبة زمنية عزيزة علينا، زاخرة بالفن، والذوق، والعطاء، وربما الجيل القديم لا تغويه هذه المعارض، إنما نعول على رجالات المجتمع، والأجيال الشابة، والمهتمين بالتراث، والآثار، أن ينقلوا هذا اللون من الفنون من البناء، الذي أُهمل، وضاع واندثر، و”أبو مصطفى – هجلس” يهتم بهذا الفن، ويصرف جل وقته في التفتيش عن هذه الآثار.

وأضاف: “كما أن الكتاب توثيق بالصورة والكلمة لتراث القطيف، وأنواع الزخارف الجصية، ومكونات البيت القطيفي القديم، فهو كتاب قيم، وطباعته فاخرة، يستحق الشكر على جهده، وحث الناس في الحفاظ على تراثهم وما تبقى من آثارهم”.

زوار آخرون
واستكمالًا للجولة، تحدث خالد الفخر عن كتاب “هجلس” قائلًا: “الكتاب يوثق حقبة قديمة، وتراثًا يكاد يكون انقرض، التحف المعمارية التي كانت منتشرة كفن، كان يعيش الجميع وسطها دون استشعار جمالياتها، من أقواس، وحجر، كل هذه التفاصيل وغيرها، سلط إسماعيل هجلس الضوء عليها في كتابه، متجولًا في تراث كل المناطق بالمملكة، وهو ما سيحمله كتاباه الثاني والثالث”.

وقال سجاد الجصاص، لاعب ملاكمة: “لم نعش تلك الأيام، لكن عندما تدخل هذه البيوت تستشعر روح من سكنوها، وإسماعيل فنان استطاع نقل هذه المشاعر الدافئة في صوره، والمنحوتات رائعة”.

أما عباس الحايك، فاعتبر المعرض استعادة للعمارة والزخرفة القطيفية المهملة، بالنسبة لي كانت غائبة، ولم أتوقع أن تكون بيوت القطيف بكل هذا الجمال، والمعرض مبادرة جميلة لتظل في ذاكرتنا ولا تنمحي.

وقال صبري الغاوي: “قبل أن أصل إلى المعرض، كانت نفسي تحدثني بأني سأرى ما يبهر في هذا المعرض، وأعتقد أنها جزء من إبداع الفنان، وما سيفاجئنا به من كشف جماليات المعمار السعودي سيكون أكبر، ونتوقع منه الكثير”.


error: المحتوي محمي