هل جربتها؟

حتمًا إنَّ أجمل وأجرأ سنواتٍ في حياتنا هي سنواتُ المراهقة، التي ننتقل بعدها لمرحلةِ الرجولة أو الأنوثة، فيها نجرب كل شيء، وفيها نعمل كل شيء، كانت أفعالنا في الماضي بإرادتنا، أو بقليلٍ من الحثِّ والضغط من أصدقائنا في سنواتِ الشقاوة، أما الآن فالكل يجر – الصبايا والصبيان – بدعوى أنه يبيع الأفضلَ والأرقى والأحسن من كلِّ البضائع التي يستهلكها العقلُ والجسد، وعليهم أن يصفوها من الشوائب!

و الأنكى في كذب الدعايات أنه يتكثف عندما نكون في سنواتِ الضعف التي لا نريد أن نجربَ فيها الجديد، سئمنا ومللنا من المغامرة، فلا نريد سوى توفيرِ الساعات، وبعض الدريهمات، والاعتناء بالصحة، والإقلال من المعارك الجانبية، نبحث عن الخدمة والمنتج، ومن يقدم الأفضل، لكن ليس من سبيلٍ لمعرفة الغثِّ من السمين وكلهم “يدَّعي وصلًا بليلى”.

تبدأ حفلات التكاذب من التاجرِ الصغير حتى المصنع الكبير، الكل يضيف للجودةِ حجمًا حتى تصبحَ في حجم الجبل، ومن يشترِ البضاعة يعتقدْ أنه فاز بغنيمة؛ ليكتشف في أغلبِ الأحيان أن لم يغنم إلا وهمًا، شاركَ في بيعهِ له كثيرٌ من الناس عن قصد، تنتابني سوراتٌ من الحيرة عندما يمدح كلُّ بائعٍ بضاعته، وفي أغلبِ الأحايين أسأل البائع: هل جربتها؟ ويأتي الجواب: بالتأكيد! هي حلوة أو ممتازة أو لا مثيل لها، وهي ليست حلوة، وليست ممتازة، ولا تعمر طويلًا، ولم يجربها!

تتفنن الشركاتُ الكبيرة في تسويق ما تنتج فعندما بدأت شركةُ  فيليب موريس إنتاج سجائر مارلبورو كانت تستهدف الصفوةَ من النساء والرجال، النساء الأنيقات في المجتمعِ الراقي يدخنَّ سيجارةً تحمل اللونَ الأحمر؛ ليخفي صبغة الشفاه الحمراء التي تضعها النساء للزينة، والرجال المهذبون الناجحونَ في المالِ والأعمال فالسيجارة لهم عندما يريدون الهدوءَ والراحة بعد وجبةِ غداءٍ أو عشاء!

نجحت دعايةُ مارلبورو في اختيار رجالٍ أشداء مثل الصياد والبستاني والبحار والطيار بوشمٍ عسكري، على أيديهم دلالة على حياتهم التي تفيض بالمغامرة، لكنها نجحت أكثر بعد أن أتت بخَيَّال مارلبورو، عام ١٩٦٢م، حيث راعي البقر الوسيم القوي يقف في الفضاءِ الواسع يمسك أعنةَ الفرس في يده وهو يشعل سيجارةَ مارلبورو.

تطورت التقنيات في عصرنا، وأصبح التمويهُ والدجل أكثر حنكةً وبراعة، الآن في كل زاويةٍ صبيةٌ أو صبي يعلن عن منتجٍ، ويدعي أنه الأفضل، وهو نفسه لا يصدق الدعايةَ والكلمات التي يقولها، لكنها طريق لهم، والمنتج للمالِ والشهرة، خَياَّل المارلبورو الذي مات منذ فترةٍ قصيرة باعَ المرضَ لغيره، لكنه طالما تحدث مع أبنائه عن أضرار التدخين، وأنه لا يريدهم أن يجربوا حتى سيجارة واحدة! لم يعد الإعلان لوحةً جميلة على جانب الطريق، بل صار فنًّا في دراسةِ الاتصال والتأثير والنفوذ نحو العقل الباطن واللا وعي، ومنها إلى باقي الغرائز والحواس ليصل إلى محفظةِ المال ومحفظةِ العقل!


error: المحتوي محمي