أصحاء؟ إذًا لا نأخذ الدواءَ إلا إذا ظهرَ المرضُ، ونالَ منا الألم، قاعدةٌ يعمل بها جُلُّنا إن لم يكن كلنا! ننظر إلى حينِ اعتلالِ أجسادنا، ساعتها نزور الطبيب فيصف لنا الطبيبُ دواءً؛ راجيًا أن يوقفَ ازدياد حدة المرض، أو يكون سببًا لشفائه، هذا هو “طب المرضى”.
ماذا لو لم يقتصر الطب على المرضى فحسب؟ وكانَ السليم له طبٌّ وطبيبٌ أيضًا، وأسميناهُ: “طب الأصحاء” إنها الوقاية التي يستقوي بها الإنسانُ على الأمراض؛ فلا تصيبه، من أجملِ اللافتات التي تعلق في بهو المدارسِ والمستشفيات: “درهم وقاية خيرٌ من قنطارِ علاج” وأخرى مكتوبٌ عليها: “الصحةُ تاجٌ على رؤوسِ الأصحاء لا يراهُ إلا المرضى”.
لكن أنّى للإنسان الوقاية الكاملة، وهو لم يكن، ولن يكونَ في أيِّ زمانٍ معزولًا عن محيطهِ، والمادة التي تجلب له المرض؟ إذًا يبقى جلُّ أمله أن يكونَ في نظامِ الوقاية، والابتعاد عن مسبباتِ المرض سياجًا واقيًا يطيل له العافيةَ والسلامة.
نعيش في العصر الحديث في بيئةٍ نصبت الجسدَ السليم والعقلَ الحصيف غرضًا لها، فتعددت وتنوعت الأساليبُ والمنافذ التي تمر منها ملوثاتُ الجسمِ والفكر لتصيب غرضها، ولمحاربتها لا بدَّ أن يكونَ الجزاءُ من جنسِ العمل، واعتماد أساليب “وداوني بالتي كانت هي الداء”.
قليلٌ من المرضِ المقنن والجراثيم المحسوبة تعلم أجسادنا الضعيفة محاربةَ الأوباء، وتحفزها لكي تطورَ جهازَ المناعة؛ فلا نصاب بتلكَ الأوبئة الخطيرة ما حيينا، وليس أدل على فعالية طب الأصحاء من اختفاءِ كثيرٍ من الأمراض التي فتكت بالبشر، وأماتت الكثيرَ منهم، حيث لم تعد توجد تلك الأوبئة بعد اكتشاف تحصيناتٍ طبية يأخذها السليمُ في جرعةٍ، أو جرعاتٍ من الميكروب ذاته المسبب للمرض.
“طب الأصحاء” يهتم بالجسد والعقل، ولأن الفكرَ لن يبقى معزولًا أيضًا عن الملوثاتِ والمرض، فقليلٌ من الشكوكِ المتناهية، والأسئلة الصعبة، والتعلم يجب أن تختبر نظام العقل والمعرفة؛ لنعرفَ من خلالها بعض الحقائق، وإن لم نصل إلى درجاتِ اليقين.
اعتمادنا على مناعتنا ومعرفتنا المحدودة والموروثة في العادةِ لا يكفي أن يقينا من “لواقحِ الفتن” في عصرٍ أصبح فيه بابُ الدخول إلى حواسنا ومن ثمَّ إلى عقولنا مفتوحًا على مصراعيه، فلا يمكن إغلاقه مهما حاولنا وجاهدنا، ومن خدعنا ودخل من خلالِ ذلك الباب مرةً فسوف يدخل ثانيةً وثالثةً ورابعة!
قليلٌ من الأكلِ الجيد، ورداءُ الشتاء الدافئ، والراحة كان يكفينا من نوباتِ البرد في مجتمعٍ صغير ومنعزل، كما قليلٌ من المعرفة كانت تقينا من الحيرة، فلا أحدَ يحمل في جسدهِ وفكره ما هو غريب، وغير ما نحمل في رؤوسنا ويدور في محيطنا، أما اليوم فالعَالم كله بجسدهِ وفكرهِ متصلٌ بنا، ونحن متصلونَ به، ولا نستطيع الاختفاءَ عنه، أو الاحتماء منه، فليس إذًا سوى قليل من طبِّ الحماية المحسوب فهو بكل تأكيد أنجع من علاجِ المرض العضال.
جرعات الوقاية، وطرق الحماية من المرض قد تُهلك البعض إن زادت عن حدودها، لكن المرض إذا تمكن فسوف يفتك بأعدادٍ أكثر بكثير، وليس أسهل أيضًا من الفتكِ بفكرِ مجاميع من البشر حين يعتمدون على الحواسِ والغرائز، دون الاعتماد على الفكر والعقل الذي يعقلها ويحميها من النقائصِ والانحدار.