اسم المستخدم

جلست أحاور نفسي هل كان حلماً أم هلوسة من مخاض آلامي، هلا عدت إلي يا قلباً يوهج في أحلك الليالي ويعانق بصيص الأمل في أيامي. جاءتني أم عبد الله متثاقلة حزينة، تجرجر قدميها، نظرت إليها وأخذت أتساءل: لماذا تستمر في فعل ذلك، لماذا تعتصر روحها كل أسبوع دون حتى أن تتكلم؟

“هلا ذهبنا، لا أستطيع الانتظار” بنبرة مكسورة، “توقفي يا أم عبد الله، توقفي حباً في الله، لقد مرت سنة على مراجعتك للطبيبة النفسية حتى الطبيبة لا تعرف سبب مراجعتك، أنتِ لا تتحدثين، قتلتني بالصمت ولا أعرف كيف أستمر في هذه الحياة”.

“لا تناقشني، سأذهب اليوم واليوم بالذات لا بد أن أتكلم، اليوم مات قلبي، واليوم قررت أن أحيا”.

نظرت إليها بحيرة، لا بد أنها فقدت عقلها من ألم الفقدان ولا أظنها تعرف أي يوم هو اليوم لولا موعد الطبيبة النفسية.

“ألا يهمك عبد الله وحنان، أطفالنا يفتقدونك، متى تعودين إلينا”، “اليوم، اليوم سينتهي كل شيء”.

تمالكت نفسي، وتماشيت مع رغبتها التي بدأت مسبقاً، فجأة طلبت مني زوجتي منذ عام أن آخذها للطبيبة النفسية، لم أناقشها، لم أسألها عن السبب، لأني لم أتساءل عن رغبتها بتحسن صحتها النفسية، ما صدمني هو طلبها الذهاب لطبيبة أجنبية في مدينة بعيدة وأصرت على الذهاب لها بالذات، ما زاد من تشويشي أنه بدا لي أنها تمقت الطبيبة من نظراتها وتفاعلاتها بعد كل جلسة، لكنها طلبتها تحديداً بالاسم، الطبيبة طلبت مني لاحقاً حضور الجلسات لأن زوجتي لا تتحدث معها، بعد فترة من المحاولات البائسة حاولت الطبيبة تحويلها إلى طبيب آخر حتى لا تخسر جلسات العلاج غير المجدية، لكنها رفضت بشدة وبدأت أخيراً بالحديث، لكن حديثها كان غريباً فقد كانت تصف أطفالنا، تحكي عن طفولتهم ولحظاتهم السعيدة، كانت تحكي عن حبها وعنايتها بهم، لكنها لم تتكلم يوماً عن الفقدان والألم، وقعنا في حيرة لصمتها ولا أزال أعاني دون أن أعرف السبب.

أخذتها إلى الطبيبة على مضض، وحين وصلنا نظرت لي زوجتي بحزم؛ لا تدخل معي اليوم.

عرفت أنها تعتزم التحدث اليوم، طلبت منها أن تسمح لي بالدخول “أم عبد الله ألست رفيق دربك، ألا نتشارك الأبناء والأفراح قبل الأتراح، اسمحي لي أن أعانق جراحك، وأزيح الهم عن كاهلك”.

نظرت إليَّ نظرات ذابلة “أخاف عليك من بوح جراحاتي”.

أمسكت يدها وقلت بإصرار: “دعيني أكون سندك فلن أسامح نفسي إن كان من جانبي خذلان”.

قبِلت زوجتي مستسلمة لإلحاحي.

دخلنا عند الطبيبة وبعد الترحيب والأسئلة الرسمية، بدأت زوجتي بالحديث: “هل تؤمنين يا دكتورة بالقدر؟”.

ردت الطبيبة برزانتها المعتادة: “لا يهم ما أؤمن به، نحن هنا لتتحدثي عن مشاعرك، هل تؤمنين أنتِ؟”.

ابتسمت أم عبد الله “ألم أحدثك يا دكتورة عن أبنائي، عبد الله وحنان؟”.

هزت الطبيبة رأسها بتفهم كإشارة على فهمها أن هذه الجلسة ستكون كالجلسات المعتادة خالية من المضمون، “نعم نحن نتحدث عنهما في كل جلسة، لكنني أريد أن أسمع عنكِ، كيف تشعرين ولماذا شعرتِ بالحاجة للعلاج النفسي”.

تنهدت أم عبد الله “أنا أسيرة ومحكومة لقدر قد استزف حنايا فؤادي، من قدري أن أكون أمًا ومن قدري أن تتمحور حياتي حول أبنائي”.

بدت الطبيبة متعاطفة وحاولت باستماتة أن تحثها على الحديث عن نفسها “أنتِ كيان خاص بذاتك وعليكِ تربية أبنائك وإعدادهم للعالم الخارجي حتى يكون لهم كيانهم الخاص”.

بدأت نبرة صوت أم عبد الله بالتغير “لقد أعددت أبنائي بكل فخر وربيتهم محاطين بكل حب واهتمام، أخاف على أعينهم من الشمس الساطعة وعلى جلدهم من هبوب النسمات، أخاف عليهم في كل خطوة أن تخونهم أقدامهم فيتعثرون، تقولين لي كياني الخاص، ما هو كياني وما هو وجودي إن لم أكن ليكونوا هم، ليتجلوا هم، وليعيشوا هم، هم من يجعلون لوجودي المعنى والسبب، هم أجزاء مني وأنا جزيئات منهم”.

فهمت الطبيبة أن أم عبد الله تناور لتتحدث عن أبنائها وتضيع وقت الجلسة، “اليوم نريد التحدث عنكِ يا عزيزة، أنا أعرف أنكِ تريدين التحسن لأجل نفسك أولاً ولأجل زوجك ولأجل أبنائك، يجب أن لا يطوى اليوم في قائمة الأيام الضائعة”.

ضاعت نظرات أم عبد الله وهي تنظر إلى أفق من العدم “اليوم مميز يا دكتورة، أتعرفين لماذا؟ اليوم سأتحدث عن ابنتي أحلام”.

انقبض قلبي وحاولت أن أخفي ملامحي كيلا أثنيها عن الحديث، بينما اتسعت مقلتي الطبيبة بتعجب لسماعها بالاسم لأول مرة.

استمرت زوجتي بالحديث دون أن تنظر إلى الطبيبة أو إليَّ، حتى تسترسل دون مقاطعة، “ابنتي أحلام فتاة رقيقة وحساسة، لكن أكثر ما يميزها هو ذكاؤها وفطنتها التي تفوق سنوات عمرها، ليست خجولة كأختها الكبرى ولا عديمة المبالاة بمن حولها مثل أخيها، سميتها أحلام لأنها تمثل كل أحلامي وما تمنيت أن أكون أنا عليه”.

توقفت لبرهة لتأخذ نفساً عميقاً، كم هو صعب الحديث عن أحلام، ثم استكملت: “ابنتي كانت ذات قلب جسور وقد كانت تعشق وطنها وتتعمق في قضايا المجتمع. حين برزت ظاهرة التواصل الاجتماعي طلبت مني أن أسمح بتسجيلها، سجلتها وقد غيرت تاريخ ميلادها لأن الفيس بوك لم يكن يسمح بتسجيل الأطفال في عمر التسع سنوات، كانت صرعة جديدة ورغم ترددي فقد استسلمت لها كون أغلب صديقاتها في المدرسة يمتلكن حساباً، كنت أراقب صداقاتها ومتابعاتها والمجموعات التي تشترك فيها”.

كانت الطبيبة تصغي بتمعن واهتمام وقد حارت في شأن زوجتي، ما الذي يعذب روحها ولماذا لم تذكر ابنتها من قبل.

استمرت أم عبد الله في الحكاية “في يوم ما عادت أحلام من المدرسة وهربت إلى غرفتها، تركتها لترتاح وقررت التحدث إليها في المساء، لكن الحديث لم يحدث أبداً ويا ليتني رميت مشاغل البيت و ركضت لأحتضنها، باتت ابنتي تقضي أوقاتها في غرفتها، ابتعدت عن إخوتها، لم تكن تأكل جيداً، أخذتها إلى الطبيب لأن تلك كانت حدود فهمي، فلم أفقه كيف أستطيع حل المشكلة لأنني لم أفهم ما هي مشكلتها من الأساس، لكن الطبيب صرفها كونها لا تعاني من أي مرض عضوي، وأوصانا أن نجعلها تأكل الفواكه لأن نقص الفيتامينات قد يسبب الاكتئاب، ثم نصحها بالتمسك بالصلاة والدين لأن الاكتئاب من علامات نقص الوازع الديني”.

نظرت الطبيبة إليَّ بانصدام وقد بان على وجهها الانزعاج لأن الطبيب كان يجب أن يفهم خصوصية واستثناء الحالة وتحويلها للطب النفسي للعلاج.

أكملت أم عبد الله دون أن ترفع عينيها: “بعد مدة من زيارة الطبيب والكثير من الفواكه، استسلمت ابنتي الجسورة الحنونة التي أحملها في مقلة عيني وأدثرها بجفوني، تخلت عن الحياة”.

تناثرت الدمعات من عيني زوجتي لتغسل وجهها المتسمم بالقهر والعجز وأخذت تستفرغ الكلمات “أزهقت روحها، غادرتنا إلى بارئها منذ سنتين”، توقفت زوجتي عن الحديث لبرهة لتلتقط أنفاسها وتمسح دموعها الصابرة، تنفست الصعداء وشعرتُ بارتياح لتحدثها أخيراً.

استكملت أم عبد الله “كرهت ذلك الطبيب وألقيت بالملامة عليه، فالأطفال يصابون بالاكتئاب ولا دخل للفواكه والدين في الموضوع، لكنه أهمل مهنته ولم يحولها لطبيب ذي اختصاص وبسببه فقدنا فرصة إنقاذ حياتها، كلما تفكرت في موتها حقدت عليه وتحول كرهي إلى هوس كيف أنه تسبب بموتها وكان بإمكاني منعها وإنقاذها لو أنني فعلت ولو غيرت حتى نفذت احتمالات الـ لو، لكنني أدركت بعد تفكير استنزف دعواتي أنه لم يكن السبب في وفاتها”.

جذبت انتباهي جملتها الأخيرة لأننا بالفعل لا نعرف سبب اكتئاب ابنتنا، ولربما كان هذا سبب زيارتنا لهذه الطبيبة، لربما زوجتي تلوم نفسها لفقدان أحلام، اكتملت قطع الأحجية في رأسي وفهمت سبب حضورنا أسبوعياً للطبيبة وصمتها.

استرسلت أم عبد الله في الحديث “قبيل ما يقارب السنة غالبني اشتياقي وقد مر وقت كافٍ لأتجرأ، فتحت صفحة ابنتي على الفيس بوك لأقرأ ما أنبت عقلها من منظورها كوني أعرف كلمة السر لحسابها، فوجدت رسائل تنمر واضطهاد قد أغرقت التنبيهات مع ردود على التعليقات و الرسائل الخاصة، لقد كان جيش من المتنمرين قد انزعجوا منها في إحدى المجموعات لتعليق تافه عبرت فيه عن فخرها بفتيات بلدها اللاتي أصبحن يشتغلن كطبيبات وممرضات بدلاً من استقدام الكوادر الأجنبية، انهالت عليها الشتائم التي وصفتها بأبشع الصفات كالعنصرية والحقد والتخلف، كنت أقرأ وأتتبع كل تعليق وكل رسالة من تنمر استمر لأشهر، وكنت أنظر إلى الحسابات بغضب وحقد”.

“تتبعتهم لأفهم كيف يمكن أن يحمل إنسان هذا القدر من الكره والعنف ضد شخص لا يعرفه، حتى استوعبت ووجدت بعضهم أطفالاً مثلها ومراهقين غير مكترثين وحتى كباراً وعاقلين منهم الأطباء والممرضون، بعضهم كان أباً أو أماً، أدركت أنهم يشتمونها بحركة القطيع ولا أحد يهتم لمشاعر اسم على الشاشة لأنهم لا يعرفونها ولا يعرفون أنها طفلة! هي لم تقصد الإساءة لأحد لكنهم حوروا كلماتها لمعانٍ أخرى، بالنسبة لهم هي مجرد اسم مستخدم، والأسوأ كان تعليق يقول “لا تتحدثي عن الكوادر الأجنبية المتغربة يا حشرة، تسمين نفسك أحلام المستقبل، المستقبل بيد الطبيبة والممرضة الأجنبية وستبقين مجرد نكرة، اسدِ خدمة للبشرية واقتلي نفسك”.

سكتت أم عبد الله وأخيراً رفعت عينيها لتنظر إلى الطبيبة بغضب واتهام.

بهتت الطبيبة وقالت بتلعثم: “أ أ أحلام المستقبل، أنا لم أكن أعلم أقسم بالله لم أكن أعلم، الكل يدخلون مواقع التواصل الاجتماعي، الجميع يعبرون عن آرائهم في قسم التعليقات، اعتقدت أنني أدافع عن كياني، كيف لي أن أعرف أنها طفلة”.

كان تاريخ اليوم هو الذكرى السنوية لذلك التعليق العابر.


error: المحتوي محمي