ورد عن الإمام العسكري (ع): ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبةٌ تُذلّه! ( تحف العقول ص ٤٨٩ )
ما أروعه من درس تربوي وتهذيبي للنفس! يشير له الإمام العسكري (ع) يكشف من خلاله نقطة ضعف، ومسارًا ينزلق فيه المؤمن نحو طريق الهاوية، فهناك حقيقة مهمة يغفل عنها كثير ممن ينقلب نحو البهيمية الصرفة، أي: السير خلف الشهوات، وتحصيلها في مشهد لا يفارق فيه بقية الحيوانات التي تحركها غرائزها، ألا وهي أنه مخلوق مكرم بعقله، وله مطلق الحرية في الاختيار، بحيث لا يتعدى خط ما يحدق به من أخطار وأضرار، فأعظم نعمة يستصبح بها غياهب ودياجير دروب الحياة الصعبة هي هدي عقله، وقوة إرادته، فلماذا يتخلى بكل سهولة عن هذا الفخر والعماد لحياته، ويستبدله بقيادة الغرائز المتفلتة التي تقوده في النهاية المؤسفة إلى الانسلاخ عن عزته؟
وعفة المؤمن عن الشهوات وسام شرف، وتاج علياء يثبت بها تمسكه بإنسانيته، وقيادة عقله الحكيم، إذ أن ضعفاء العقل ينظرون للنزوات، واللذات اللحظية كمبتغى وغاية يلهث من خلفها، دون أن ينظر إلى النتائج المترتبة عليها، وما تورثه من حسرات ومندمة، فبقطع النظر عن آثارها الأخروية التي توقعه في أسوأ العقوبات وأشد العذاب، فإن لها في الدنيا من الآثار السلبية ما لا يدركه إلا كل حر كريم، يأبى حياة العبودية، وأغلال الأسْر، إذ السائر خلف شهواته لا يملك إرادة الامتناع عن تحصيلها وتناولها، وكفى بذلك خزي ومهانة يأباها كل شريف يعتز بأن يأباها.
وبالطبع فإن الحديث لا يتحدث عن لذات المعصية، فالمؤمن منزه عنها، ولكن الرغبات الطاغية ترسم مسارًا يتجه به شيئًا فشيئًا نحو المعصية، فحب النفس، والرغبة في تبوئها للمكانة العلمية، أو الاجتماعية العالية، ينطوي على مخاطر الرغبات كالغرور والأنانية، ومشاعر الكراهية تجاه المنافسين، والرغبة في توفير مستلزمات الحياة الكريمة قد يتجه به نحو الطمع، والتولع بالمظاهر الدنيوية (زهرتها، وزخرفها) وهكذا بالنسبة لبقية رغبات الإنسانية (النوازع النفسية) التي هي المحرك للسلوك والوجدان، فالرغبة – بحد ذاتها – أمر إيجابي، بل ومحرك كمالي للإنسان، ولكن ما أشير إليه في هذه الحكمة هو التنبه من الآمال المتطاولة، ورغبات النفس التي لا تشبع ولا تقنع، فليكن المؤمن في حالة توازن في طلب معاشه ومسيره الدنيوي مع حاجاته الروحية والمعنوية، فإن المؤمن متى ما كان في حالة قناعة، ورضا بالتقدير الإلهي لم يتحسر على حظ فاته، ولم تتعلق نفسه برغبة تحصيلها ينطوي على إذلاله وتخليه عن كرامته، فالحديث لا ينهى، ولا يطلب من المرء الامتناع عن تلبية رغباته وتطلعاته، فهذا خلاف الفطرة الإنسانية القائمة على سعي الإنسان لتحقيق طوره الإنمائي والتكاملي، ولكن المنهي عنه هو تحول تلك الرغبات لنقطة ضعف، تشغل فكره فلا يلتفت إلى يوم معاده، وما يعده في صحيفة أعماله، فيخرج عن طور التوازن، ويندفع نحو تحصيل كل لذة، وكأنه يعيش في الدنيا الفانية مخلدًا، أو يلامس خطه الإيماني، فتنازعه نفسه نحو تلك الرغبة، وإن انطوى تحصيلها على بعض المخالفات، وما يحفظ المؤمن من انزلاقات الرغبات هو الحفاظ على كرامته، وورعه عن المحارم.
فانظر – يا رعاك الله – إلى من أخذته فتنة حب الدنيا ومظاهرها، فتوسع وتشعب في طلباته، فكأنه يسعى إلى تحصيل كل شيء، في المقابل ينسى نفسه من حظوظها الأخروية، فهو غير مستعد لبذل جزء بسيط من وقته لتلاوة القرآن الكريم، أو المناجاة، أو الصدقة، بينما يستنفذ جل وقته في اللعب الكثير، أو الحديث والنقاشات قليلة الفائدة في المجالس، ويدفع لشهوة بطنه ما لا يدفع عُشرًا منه كصدقة!
فما تقول في سيرة العظماء الذين لم تقدهم نفوسهم العالية نحو عمارة الدنيا، واللهث خلف شهواتها، بل تلحفوا بالقناعة في كل شيء فنالوا خيري الدنيا والآخرة.