رحماك يا تاجر

قبل غزو الموازينِ الإلكترونية ودفع القيمة نقدًا؛ بواسطةِ التحويل المصرفي المباشر، كان التاجر يزن كلَّ شيء تقريبًا، ما عدا الذهب والمجوهرات، بكفتي ميزان الصَّنْجَةُ، يضع الصَّنْجَةُ أو السِّنْجَةُ “ما يوزن به، كالكيلو والرَّطل والأوقية” في كفة والشيءَ الموزون في الكفةِ الأخرى، ويتأكد من رجحان الكفةِ التي فيها السلعة لمصلحةِ المشتري، ولا يبعد أن يزيدَ في وزن الكيلو الواحد عدةَ جرامات، وعند احتساب مبلغ الشراء إن كان المبلغ يزيد بريالاتٍ قليلة، فمثلًا كان واحدًا وخمسين ريالًا أو مائة وخمسة ريالات، كان التاجر في الغالب يقول للمشتري: هاتِ خمسين ريالًا، أو مائة ريالٍ فقط، وقد يكون قبل البيع أنقصَ من قيمةِ السلعةِ قليلًا؛ رفقًا بالشاري، وطمعًا في عودته! بيعٌ لا يبخس البائعُ فيه المشتري الكَيْلَ أو المِيزانَ، ولا يبخس فيه المشتري البائعَ الثمن، كلاهما ينام قريرَ العين، وفيما باعوا واشتروا الربحَ الكثير والبركة.

الآن صار كلٌّ شيء تقريبًا يوزن بموازينَ إلكترونية تزن حتى الجرام الواحد، وتحسب قيمةَ البضاعة بالهللةِ الواحدة، ويدخل في وزن البضاعة الكيس، عند دفع المبلغ يأخذ التاجر كلَّ هللة، وقبل البيع كان قد حدد ثمنَ السلعة ولم ينقص منه شيئًا. ربما في عمليةٍ حسابية لن يساوي وزن الكيس شيئًا كبيرًا، لن يزيدَ عن جراماتٍ قليلة، ولن يعبأَ به المشتري، لكن كم تزن كل الأكياس مساءَ كل يوم، وكيف يحسبها من يقول: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [ الأنعام: ١٥٢ ] وهو الذي يقول أيضًا:  ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) [ هود: ٨٥ ].

عندما بنيتُ منزلي عام ١٩٨٦م كان لزامًا أن أشتري بعضَ أدوات البناء من خارجِ القطيف، وكان معظم التجار لا يمانعون أن يبيعوني بالدين، عندما كنت أسألهم عن السبب كان جوابهم: أنتم أهل القطيف توفونَ بالدين، جوابٌ كنت أعتز به، وأُعرِّف من أشترى منه أنني من القطيف.

إيفاءُ الوزن و إيفاء الثمن عمليةٌ يحتاجها كل مجتمع، فالتاجر لا بدَّ أن يكون وفيًّا رحيمًا بالمشتري، والمشتري لا بدَّ من أن يعيد له الوفاءَ بدفع ثمن ما اشترى دون تأخير، والشراء منه في المرةِ القادمة.

إذا ما أنعم اللهُ تعالى على مجتمعٍ بالمالِ، وسَعة الرزق؛ فلا حاجةَ له إلى نقص اليسير من المكيال والميزان، ولو عن طريق الغفلة، هذا ما دعا خطيبُ الأنبياء شعيب (ع) قومه إلى تركه؛ خوفًا عليهم من أن يرتحلَ الأمنُ والرخاء عنهم، رخاءٌ يحتاجه من يفي ومن لا يفي! ولكي لا يذهب ذلك الربح الذي وعدَ اللهُ به التاجر: ( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) [ هود ٨٦ ].


error: المحتوي محمي