المجتمع القطيفي خرّج قامات علمية، والجهل يُرخي بظلاله على أكثر مناطق العالم، من يستقرئ التاريخ يراه غالباً عصر ظلام في تلك الفترة، في حين يجد مصابيح من علماء القطيف أضاءت أرضها وأنارت سماءها وتعدت.
ولا يزال في أذهان كبار السن ذكريات أن القطيف تسمى النجف الصُغرى لكثرة علمائها، منهم من جمع بين العِلمين، أما نجف العراق فهي حاضرة وحاضنة للعلوم والعلماء على مستوى العالم بأكمله، وكعبة لمن أراد له طلباً.
والعالَم غرباً وشرقاً في سبات عميق غارق في جهله، وقريباً إن شاء الله نرى القطيف كما كانت نجفاً صُغرى.
القطيف اليوم في عصرها الذهبي الزاهر تزخر بعلماء الدين الذين يمرون بمراحل شاقة وطويلة في مسيرتهم العلمية.
الأولى: الطلبة حديثو اللحاق بالعلوم الحوزوية، يدرسون المبادئ منها أو كما تسمى المقدمات، أولها اللغة.
الثانية: مَن قطع شوطاً وأنهى المقدمات ولكن لا يزال عليه المواصلة وإنهاء الكثير من المناهج والكتب الحوزوية المعتادة والمعروفة في الأغلب التي تؤهله إلى مستوى إذا تجاوزه يتمكن من التدريس.
الثالثة: من وصل إلى مرحلة التدريس المبدئي ولكن عليه مواصلة درسه إلى أعلى كلما أمكن، حتى يصبح بمقدوره المحاضرة أمام طلبة من المستوى المتوسط ومن هم دون مستواه، وعلى الأغلب هذه المرحلة تحدد طالب العلم هل هو متفوق أم لا؟ هل من الممكن أن يصل إلى ما يؤهله للاجتهاد ومرحلة البحث الخارج؟
الرابعة: العلماء بمرتبة ما يسمى “آية الله” هم النخبة المتميزة التي تمكنت من استنباط الأحكام الفقهية وتعتمد على نفسها في الفتاوى ولو تبعيضاً، ويمكن اعتماد الغير عليها أو بعضها.
في القطيف حالياً من هذه الطبقة ما فيه فخرها وعزتها، ولا أستبعد أن تبرز في العقود القريبة القادمة قيادات دينية (مرجعيات) يشار إليها بالبنان.
هذه نعمة مَن يحظى بها فقد أوتي حظاً عظيماً، وقد حظيتها القطيف، مقدمة بسيطة ومختصرة لما نريد الدخول فيه، نحن مجتمع يدين بما جاء به محمد وحمله من بعده آله عليهم السلام، نحن أتباع مدرسة أهل البيت الكرام.
القطيف مجتمع محب للعلم والعلماء، نشد على سواعد هذه الصفوة ونكن لهم كل احترام وتقدير، وهم أهل لذلك، ونقدر متاعبهم وانشغالاتهم وجهودهم المتواصلة، يحتاج المنتمي إلى العلم التحلي بأخلاق وسلوك مشرفة، نشكر جهودهم المضنية، ولكن في العين قذى وفي الحلق شجى.
طرحُنا لهذا الموضوع يحتاج إلى مكاشفة وتحمل ولو نسبياً، وهنا أعتذر عن عرض آراء ومقترحات غير موافقة للبعض، أنا بشر قد أصيب وقد أخطئ، لا أخشى النقد أو مخالفة الرأي إذا كان بناءً، بل أرحب به، لإيماني بأن تداخل الآراء ومقارعتها مع ما يتمخض عنها توصل لحلول، وتفتح آفاقًا من المعارف، وتظهر هواجس المجتمع، أما الاعتراضات والآراء الهدامة أو المنحازة أو المشخصنة لا تعني شيئاً ولا أهمية لها.
علماؤنا بشر تحصل منهم الغفلة ويتعرضون للنسيان ويقع منهم الخطأ وتلهيهم المتاعب أحياناً ولهم ظروفهم الخاصة، وعليهم التزامات عائلية، ولا يؤاخذ عليهم في ذلك، لكنها ليست مبرراً لما نطرحه فيما بعد ونطلبه منهم، لرحمك وجارك حق، ولمجتمعك حقوق، هم من ناحية التواجد المجتمعي ثلاث فئات.
(1) النشط المتميز في المجتمع المتواجد في أغلب المناسبات، من حبه لمجتمعه تراه مُنظماً في مجموعات – جروبات – مع ما له من انشغالات وما بها من إزعاجات ويشارك كل يوم بمواضيع إنشائية أو نقلية ويجيب من يسأله . ويتدخل أحياناً إذا احتاجت مسألة لجواب أو تصحيح، وما ذاك إلا ليصل رسالة لمجتمعه. مثل هذا محل تقدير واحترام.
(2) من تجده عند الطلب ولو بصعوبة، أو في مواقف ولكن دون المطلوب بدرجات مع ذلك له الشكر والثناء، لتجاوبه وتواجده.
(2) فيهم وللأسف من نسي مجتمعه إلى أن وصل به الحال لا يعلم حيهم مِن ميتهم، ولا يُعرف هو في حضر أو سفر.
وللمجتمع مواقف منه خاصة من هو بمستوى المرحلتين الثالثة والرابعة، كما وضحنا وصنفنا سلفاً وهذا لا يعني إعفاء البقية، مع كثرتهم – يحفظهم الله ويزيدهم علماً وتوفيقا وتُقى ويطيل في أعمارهم – نحتاج أن ننادي أحياناً من يصلي على جنازة وتتصل ولا مجيب – البعض ينأى بنفسه أن يصلي عليها – والجميع ينتظر.
من المعقول أن يبحث ولي المسجد عن إمام يؤم المصلين، فلا يجد إلا بصعوبة وتمسكن وبشروط أو لا يجد؟ لا أستبعد أن يأتي يوم كم يُدفع ليُصلى؟ أمِن المقبول يدخل من ناهز الستين عمراً مجلساً حاشداً بينهم عالم دين يبدأه احتراماً بالسلام كما هو متعارف عليه عندنا، وإذا به ينفر في وجهه ويتلفظ بكلمات غير مقبولة حتى من جاهل، وبدون أسباب وكأن المُسلِم دخل مسجداً، وعندما يسأل هذا ما الذي حصل؟ ما ذنبي؟ لماذا هذا الشيخ يعاملني هكذا؟ الجواب لا شيء هذا طبعه أحياناً، عَمَل مع غيرك مرات من قبل، تصرف بغيض وسوء خلق قد يخرج ضعيف الإيمان من دينه.
للأسف حصل هذا وأنا في المجلس، هل هذه تعاليم الدين؟ هل هذا ما تعلمته يا شيخ من أكثر من خمسين عاماً؟ هل هذه خلق جعفر بن محمد (ع)؟ لو شكاك إليه ماكنت فاعل؟ أنت أهنت موالياً، ماذا يقول الحاضرون فيه وعنه؟ ألا يظن هؤلاء أنه أجرم ما لا يغتفر؟ مراجع دين يرحبون بالكبير ويقبلون يد الصغير لو جاء أحدهما مسلماً، الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قبّل يداً عاملةً وقال: “إنها يد يحبها اللهُ ورسولُه”، تعلم منهم، كن داعية بأفعالك قبل أقوالك.
العلم والحلم توأمان لا يُحسن الفصل بينهما، كن بئر غرس ولا تكن ماء بئر العسيرة، المريض تغمره الفرحة حين يعوده عالم ويعتبر بيته بُورِك بدخوله وإذا به لا يجد من يدخل عليه السرور ويرفع معنوياته وعنه معاناته.
عزاء المتوفى ثلاثة أيام، لا تجد بين المعزين عالماً في أغلب الأحيان، إلا ما ندر ولأسباب، تكون مناسبة دينية واجتماعية أو حفلاً شبابياً بإنجازات وطنية لا تجد من العلماء من يشارك فيها، ليس مطلوباً من العالِم حضور كل هذه المناسبات والمشاركة، نعم يصعب عليه والجميع يتفهم ذلك، وإنما بقدر الإمكان.
هلال شهري رمضان وشوال من يثبتهما لا يبين على فتوى أي مرجع ثُبٌتت، أو كيف؟ حتى يعرف المقلدِ تكليفه، يصوم يفطر أو لا؟ يبقى في حيرة من أمره والسبب عدم التوضيح، على من يتصدى للتثبيت بيان كيفية إثباته أو نفيه، حتى يعمل كل مقلدِ بتكليفه الشرعي الموافق لفتوى مرجعه.
صلة الأرحام وحسن الجوار على أي وجه كانت وتكون؟ لو سألت عالِماً عن قطيعة الرحم أليست من الكبائر؟ بماذا يجيب؟ إن قال واجبة، هو يعلم تارك الواجب مأثوماً، ولا يسعه غير هذا، إلا أن يدلس.
نقل لي جمع من أبناء المجتمع وأنا أعلم أن لهذا العالم وذاك رحِم من الدرجة الأولى، أخ، أخت، يحتاج وقفة معنوية فقط، يصاب بعارض مرضي، أو تحترق داره، أو يتعرض أحد أولاده لحادث مميت، أو من مصائب الأيام، وما أكثرها! فلا يسأل عنه مع علمه، ولا كأن الأمر يعنيه، أما إن كان الرحم أماً أو أباً، فهذه أم المصائب، لو كان من سائر المجتمع وهو بمكانته العلمية لوجب عليه الوقوف إلى جانبه، كيف برحمه؟ ومنهم من يُعامل جاره كما يُعامل رحمه سلباً، أليس للجار حقوق؟ تعجز أن تُؤدي بعضها، تكون عنده الأفراح والأتراح ولا عداوة بينكما، وإن سلّمنا هناك خلاف، يفترض أن هذا ينهيه بمواساتك له ووقوفك جانبه.
أيضاً ليس مطلوباً منك كل يوم على باب رحمك أو جارك، لا أقل عند الحاجة، والقائمة تطول، للأسف مِن الإخوان مَن يشتبه عليه فهم بعض المعاني، مجرد عرض فكرة أو نقد تصرف لعالم باحترام ودون المساس بذاته، يقيم الدنيا ولا يقعدها ويحولها إلى جريمة يدافع عنه باستماتة، وكأنك خرجت من الملة أو غيرت فيها، من أنت حتى تُسفّه عقولَ الإصلاح بأخطاء الجهال؟
نأمل ونرجو من العلماء أن يشدوا على أيدي بعضهم ويكونوا وحدة واحدة، القطيف في حاجة ملحة لمجلس علمائي موحد يجمع أطيافها بغض النظر عن توجهات التقليد، في وقتنا الحاضر أصبح هذا المطلب من الضروريات وأن يتناسوا السلبيات التي بينهم ولو بنسبة تقربهم إلى بعض وتلم شملهم، وأن يكونوا سداً منيعاً ضد من يريدُ بنا سوءاً من تيارات إلحادية أو داعية للانحراف، ويكون مقصداً للفتاوى الشرعية والصلاة.
ومن له رحم أو جار، والكل منا له أرحام وجيران، عليه أن يراجع وضعه وعلاقاته معهم، كما نطالب بأن يكون للعلماء حضور واضح في المجتمع في جميع المواقف والمناسبات وبقوة، حتى تكون وجوه المجتمع مشرقة بهم، ولهم يدٌ واحدةٌ يرفعونها متشابكة الأصابع، هذا مطلب اجتماعي.
نحن معكم، أنتم قدوتنا، إذا فقدنا حضوركم بيننا بمن نقتدي؟ هذه الحقيقة قلتها وإن رُميت بأحجارها أو أصابتني سهامها، أرجو أن تصل رسالتي هذه للجميع، مع تحياتي للعلماء العاملين، ولأطياف المجتمع.