من المسؤول عن الإنجاز و صناعة الحضارة، هل هو الفرد تو المجتمع؟
استعرضنا في الجزء الأول النظرية الأولى و هي النظرية الرأسمالية التي نصت على أصالة الفرد و أنه هو المسؤول عن صناعة الحضارة، ثم ذكرنا في الجزء الثاني المناخات الفكرية والاقتصادية والدينية التي ولدت فيها النظرية الثانية وهي الماركسية، وسنتحدث هنا عن بعض أفكار الماركسية، وسنكمل الحديث عنها في الجزء الرابع إن شاء الله.
المادية الجدلية:
أكدت فلسفة هيغل الجدلية دور الوعي الفكري في صناعة الواقع؛ حيث ينتقل الفكر بين المتناقضات ويركب بينها وصولًا إلى الفكرة المطلقة، والتي عرفت بالفلسفة المثالية، ثم جاءت مادية فيورباخ غير بعيدة عن فكرة ذرية المادة التي بشر بها الفيسلوف اليوناني (الضاحك) ديموقريطس (٣٧٠ ق. م – ٤٦٠ ق. م) والتي ترى أن المادة تتكون من أجزاء متجانسة صغيرة جدًّا لا يمكن تقسيمها، وقد دعمها الفيسلوفان هيوم ولوك حيث أكدا أن إدراك الإنسان يتم عبر التجربة والمشاهدة بالحواس، ثم البناء عليها في نظريات علمية، وهكذا خالف فيورباخ أستاذه هيغل حيث رأى أن التطور الإنساني يتم عبر صراعه المادي وليس عبر صراعه الفكري كما يرى هيكل، ولكن فيورباخ تحدث عن الإنسان المجرد بصورة عامة، ولم يتعرض لحركة الإنسان الاجتماعية، فجاء كارل ماركس لينزل بأفكار فيورباخ إلى حركة المجتمع و التاريخ، مؤكدًا أن الواقع الاجتماعي هو الذي يصنع وعي الإنسان، وهذا عكس ما يراه هيغل بأن الوعي هو الذي يصنع الواقع الاجتماعي.
باختصار، ترى الماركسية أن الكون مادي ويتحرك ويتطور تبعًا للقوانين العلمية المادية وليست تبعًا للقوانين الغيبية وكذلك تتطور حركة المجتمع والتاريخ؛ لذلك يجب تطبيق القوانين العلمية على حركة المجتمع والتاريخ، ومن هذه القوانين التي يجب تطبيقها قوانين الجدل المادي.
الفرد و المجتمع في نظر الماركسية:
ترى الماركسية أن الإنسان كائن اجتماعي منتج، فالعمل والإنتاج لتحقيق حاجاته اللامتناهية هو مايميز الإنسان عن باقي الحيوانات، كما أن لدى الإنسان قدرة ذهنية على التجريد، أي النظر إلى ماحوله بهدف تحويله إلى منتج يستفيد منه، فحين ينظر إلى جذع الشجرة ينتقل ذهنه إلى التفكير في صناعة الكرسي والأثاث وغيره.
والإنسان في نظر الماركسية هو مجموع علاقاته الاجتماعية مع بقية أفراد المجتمع، وهو أيضًا أحد وسائل الإنتاج المهمة، بالإضافة إلى الأرض والمواد الخام؛ ولذلك تربطه مع بقية وسائل وقوى الإنتاج علاقات يسميها ماركس بعلاقات الإنتاج كالملكية الفردية وطرق توزيع الثروة والتي تعتمد على وسائل الإنتاج الموجودة في المجتمع، وفي كل حقبة تاريخية تتطور وسائل الإنتاج وينقسم المجتمع إلى طبقات حسب موقعهم وعلاقاتهم في العملية الإنتاجية.
قوانين الجدل المادي:
وهي ثلاثة قوانين تنطبق على الطبيعة كما تنطبق على حركة التاريخ:
أولًا: وحدة وصراع الأضداد وهي أن كل ظاهرة في الوجود تحمل بذرة فنائها، أي تحمل ضدها ونقيضها بداخلها، مما يجعلها في حالة صراع مع نقيضها، وينتج عن هذا التناقض والصراع الداخلي حالة تغير وحدوث مستمرة، وهذا الصراع قد يكون تناحريًّا كما هو بين الماء والنار أو غير تناحري كما هو بين الأقارب.
ثانيًا: تتراكم التغيرات الكمية حتى تصل إلى درجة يصبح عندها التغير الكيفي حتميًّا، والمثال هو ارتفاع درجة حرارة الماء مع التسخين تدريجيًّا حتى يصل إلى درجة الغليان فيتحول من حالته السائلة إلى حالته الغازية كبخار ماء، ومعيار التحول هنا هو بلوغ الحرارة درجة الغليان. وهكذا ينشأ صراع جدلي بين حالة الماء السائلة السائدة حاليًّا وبين رغبة بعض جزيئات الماء للتبخر نتيجة الحرارة ويبقى هذا الصراع حتى يتبخر الماء.
ثالثًا: نفي النفي (أو سلب السلب) وتعني استمرار التغير والتطور من مرحلة إلى أخرى كحالة لولبية تتكون من حلقات متصاعدة يدخل بعضها في البعض الآخر، وليست كخط طولي متصاعد، فكل مرحلة تنفي سابقتها لتأتي المرحلة التي تليها فتنفيها. وتحوي كل حلقة من اللولب المتصاعد الحالة السائدة وبداخلها بقايا الحالة السابقة كضد سلبي يحاول الرجوع إلى الحالة السابقة، وكذلك تحوي بذور الحالة القادمة كضد إيجابي يحاول التغير إلى الحالة التالية، وحين ننتقل إلى الحلقة التي تليها تتكرر حالة الصراع حيث تصبح الحالة التالية هي الحالة السائدة، ويضرب إنجلز مثالًا على ذلك بمراحل تطور الفراشة حيث تنتقل من مرحلة البويضة إلى الشرنقة، ثم إلى الفراشة الكاملة.
تطور وسائل الإنتاج عبر التاريخ:
بدأ الإنسان حياته البدائية باستخدام يديه في عملية الإنتاج، ثم صنع الأدوات الحجرية للصيد، ثم القوس والسهام الحجرية للدفاع عن نفسه وللصيد، ثم المطرقة، ثم الفأس والمحراث اليدوي للزراعة، ثم العجلة والعربة التي تجرها الحيوانات، ثم السفن الشراعية، ثم الآلة البخارية والماكينة والسفن والقطارات البخارية، ثم ماكينة الاحتراق الداخلي، ثم الكهرباء السيارة، ثم الحاسب الآلي والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والروبوت والذكاء الاصطناعي.
حقب الحركة التاريخية لدى الماركسية:
عاش الإنسان تاريخيًّا عبر المراحل التالية تبعًا لتطور وسائل الإنتاج:
المشاعية البدائية: بدأ الإنسان حياته البدائية في الصيد، حيث كانت علاقاته بسيطة وغير معقدة فلم تكن هناك كما يزعم ماركس ملكيات فردية، وتطورت الحياة تدريجيًّا فتعلم الإنسان الرعي ثم الزراعة، أي كيف يحرث الأرض ويزرع البذور ويرويها ثم يجني المحصول ويجري عملية تبادل مع غيره من الناس فيبادل محصوله برؤوس الأغنام مثلًا.
العبودية: أثناء الفترة اليونانية و الرومانية ملك بعض الأسياد آلاف العبيد وسخروهم في الزراعة دون حرية أو أجر مادي.
الإقطاعية: ملك بعض الأستقراطيين الأراضي الكبيرة وعمل معهم الآخرون مقابل أجور زهيدة، وهذه هي حالة أوروبا في العصور الوسطى قبل القرن الخامس عشر الميلادي.
الرأسمالية: أنشأت المعامل واستخدمت الماكينة، وألحق البعض بهذه المعامل كطبقة عاملة بأجر يومي أو شهري بينما يحصل صاحب المصنع على فائض القيمة بعد بيع المنتج في السوق، وهذه هي الحالة السائدة الآن في أغلب الدول الغربية.
الشيوعية: ماتبشر به الماركسية مستقبلًا، وهي المرحلة التي تنتصر فيها الطبقة العاملة وتلغى فيها الملكية الفردية وتنتفي فيها الطبقية.
البنية التحتية و البنية الفوقية لدى الماركسية:
يرى ماركس أن وسائل الإنتاج في الطبيعة تؤسس علاقات إنتاج تتناسب معها، ويعتبر وسائل وقوى الإنتاج ومعها علاقات الإنتاج البنية التحتية في المجتمع، والتي تقوم عليها البنية الفوقية التي تتناسب معها وتتمثل في العلاقات الإنسانية كالفن والدين والأخلاق، ويبقى الإنسان مؤثرًا ومتأثرًا بوعيه في العملية الإنتاجية فيخترع ويبتكر ويؤسس لقوى ووسائل إنتاج جديدة ولكنها تعود فتفرض عليه علاقات إنتاج جديدة تحكمه وتؤثر فيه.
إن حجر الزاوية ومحور التغيير الاجتماعي هو تطور البنية التحتية من وسائل الإنتاج و مايتبعها من تغير في علاقات الإنتاج كالملكية الفردية وطرق توزيع الثروة، ونتيجة له تتغير البنية الفوقية كالأفكار والثقافة والأدب والأخلاق فتفرض نفسها على الإنسان كفرد من أفراد المجتمع، فالتغيير يحدث في البنية التحتية من وسائل وعلاقات الإنتاج وهو الذي يسبب التغيير في البنية الفوقية من أفكار الإنسان ووعيه وليس العكس، وكما يقول الماركسيون: إن واقع الإنسان الاجتماعي هو الذي يصنع وعيه وليس العكس، وهذا هو لب المادية.
بقي علينا أن نتحدث في الجزء الرابع عن: المادية التاريخية، وتطبيق الماركسية على الاقتصاد الرأسمالي كمثال عملي، وأخيرًا التقييم الموضوعي للنظرية الماركسية بناء على فلسفتها الفكرية وتطبيقها العملي طيلة القرن الماضي، والحمد لله رب العالمين.