بين زمانين

رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه في منامه كأن فاطمة بنت رسول الله (ص) دخلت عليه وهو في مسجدهِ بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين (ع) صغيرين فسلمتهما إليه وقالت له: علمهما الفقه فانتبه متعجباً من ذلك فلما تعالى النهارُ في صبيحةِ تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمةُ بنت الناصر وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي وعلي المرتضى صغيرين. فقام إليها وسلم عليها فقالت له: أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى المفيد وقصَّ عليها المنام وتولى تعليمهما شتى العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاقِ الدنيا ما هو باقٍ ما بقي الدهر.

ماتَ والد الرضيين وترك لهما مكتبةً زاخرةً بالكتب المخطوطة فاقتسم الأخوان هذه الكتب، وبقي كتاب بينهما. كان الكتاب أعزَّ من أن يقسم وكلاهما يطمع فيه، فقال المرتضى لأخيه الرضي: هذا الكتاب يأخذه من لم يعصِ اللهَ في عمرهِ مرةً واحدة، يعني بها نفسه. فقال له الرضي: بل يأخذه من لم يهم بمعصية فحاز الرضي الكتاب.

هذا الذي من لم يهم بمعصية تفتقت عبقريته في سن العاشرة، ونظم أول قصيدةٍ في هذه الفترة من صباه حار فيها الأدباء والبلغاء وتفرغ عدةٌ منهم لجمع أشعاره وترتيبها وله ديوان من الشعر في مختلفِ الأغراض يتداوله الناسُ جيلًا بعد جيل يقرؤون أشعاره ويحفظونها وينبهرون بها. وعدَّ الأدباءُ العرب المعاصرونَ السيدَ الرضي إلى جنبِ كلٍّ من البحتري والمتنبي، وقسموا شعره إلى أقسام: الحجازيات، والشيعيات، والرثائيات، والفخريات.

كتب الشريف الرضي في الغزلِ قصائدَ في رقتها يحسبها من لم يعرف الرضي أنها من المعاصي. قصائدُ أصابَ المتدينين بعدها القحط في العاطفة التي مشاها الرضي من حدودِ الحزن والألم المفرط في الرثاء حتى حدود النشوة الشعرية في الفخرِ والغزل. قصائد طرب لها الزمان وغناها أهل الطرب:
ولمّا التقينا والرّقيبُ بنَجوة ٍ
وقد حانَ من شمسِ النّهار مَغيبُ
أَبَحْنا الهوى ما شاءَ منّا ورُوِّيتْ
عيونٌ ظِماءٌ في الهوى وقلوبُ
فلم تك إلاّ ساعة ً ثُمَّ زعزع التَلاقي
شِمالٌ للنَّوى وجنوبُ
ولولا النَّوى ما كانَ للدهرِ زلّة ٌ
ولا لِلّيالي الماضياتِ عيوبُ

قال الشاعر أحمد شوقي في قصيدته جارة الوادي:
يا جارةَ الوادي، طَرِبْـتُ وعادني
ما يشبـهُ الأَحـلامَ مـن ذكـراكِ
مَثَّلْتُ فِي الذِكْرَى هَواكِ وفِي الكَرَى
والذِّكرياتُ صَدَى السّنينَ الحَاكـي
ولقد مررتُ على الريـاض برَبْـوَةٍ
غَـنَّـاءَ كنـتُ حِيالَهـا أَلقـاكِ
ضحِكَتْ إلـيَّ وجُوهها وعيونُهـا
ووجـدْتُ فِـي أَنفاسهـا ريّـاكِ

ولكن السيد الرضي قد سبقه حين قال:
يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ
لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ
الماءُ عِندَكِ مَبذولٌ لِشارِبِهِ
وَلَيسَ يُرويكِ إِلّا مَدمَعي الباكي
هَبَّت لَنا مِن رِياحِ الغَورِ رائِحَةٌ
بَعدَ الرُقادِ عَرَفناها بِرَيّاكِ
ثُمَّ اِنثَنَينا إِذا ما هَزَّنا طَرَبٌ
عَلى الرِحالِ تَعَلَّلنا بِذِكراكِ
سهمٌ أصاب وراميه بذي سلمٍ مَن
بالعِرَاقِ، لَقد أبعَدْتِ مَرْمَاكِ

يوم كنا صغارًا كانت ألوانُ التلفاز في المقاهي باللون الأبيض والأسود. حينها كان ما يغنيه المغنون له معنى. بُعيد المساء تطل من الشاشةِ امرأة تلوح بمنديلها وتغني للشريف الرضي:
أيها الرائحُ المجد تحمل
حاجةً للمتيمِ المشتاقِ
اقرأ عني السلام أحباب قلبي
فبلاغ السلامِ بعض التلاقي
وإذا ما مررتَ بالحي فاشهد
أنَّ قلبي يفيضُ بالاشواقِ
وإذا ما سألت عني فقل نضو
هوى ما أظنهُ اليومَ باقي
وابك عني فطالما كنتُ من
قبل أعير الدموعَ للعشاقِ

اليوم أصابَ القحطُ العاطفة والشعراء وخافَ الناسُ معصيةَ شعر الغزل العذري واستحال الشعر والغناء كله إلى خطايا!


error: المحتوي محمي