من المسؤول عن الإنجاز وصناعة الحضارة؟ هل هو الفرد أو المجتمع؟
استعرضنا النظرية الأولى وهي النظرية الرأسمالية التي نصت على أصالة الفرد وأطلقت حريته وسنت القوانين التي تسمح له بتنمية ثروته كنظام السوق المفتوح. وقد أنتجت هذه النظرية رفاها اقتصاديا لطبقة الأغنياء فبرزت الكثير من الأسماء العائلية الغنية كعوائل روتشيلد ونوبل وروكفلر وبرزت الكثير من الشركات كستاندرد أويل والهند الشرقية وجي أي وحاليا جوجل وآبل وأمازون وغيرهم. وكان من سلبيات الرأسمالية أنها شرخت المجتمع إلى طبقية مروعة وذلك على حساب الطبقة العاملة وتسببت في عدة هزات إقتصادية اضطرت فيها الحكومات للتدخل لإنقاذ الأسواق.
ونتطرق هنا إلى النظرية الثانية وهي النظرية الماركسية.
مقدمة:
لعبت المختبرات والتجارب دورا رئيسيا في إثبات أو دحض الكثير من نظريات العلم الطبيعي وكان لفلسفة هيوم ولوك الدور البارز في دعم الفكر التجريبي. وقد تطورت النظريات العلمية تدريجيا معتمدة على النظريات التي سبقتها كما هو المعتاد في تطور العلوم والحياة البشرية بصورة عامة. أما العلوم الإنسانية والاجتماعية كالتاريخ والاقتصاد فكان من الصعب إخضاعها للمختبرات والتجارب نظرا لطبيعة القضايا المدروسة ولطول المدة التي يحتاجها الباحث والتي تتعدى العشرات بل المئات من السنين. وهنا يتبين مدى الصعوبة التي واجهها المفكرون في هذه القضايا كآدم سميث مؤسس الرأسمالية وكارل ماركس مؤسس الماركسية. ونحن إذ نراجع نظرياتهم الآن فإننا نستفيد من التطبيق العملي للنظريتين وكأننا قد أخضعناهما لتجربة عملية استغرقت قرنين ونصف القرن من الزمن للنظرية الرأسمالية ونحو قرن من الزمن للنظرية الماركسية.
النظريات كالنبات:
تحتاج النباتات لمناخات ملائمة للنمو كالأرض الخصبة والماء وضوء الشمس والحرارة المناسبة. وحين ننظر في تاريخ العلوم نجد أن النظريات الفكرية تحتاج كذلك إلى مناخات مناسبة. ولذلك فعند مراجعة أي نظرية فكرية، يجب علينا فهم المناخات التي دفعت واضع النظرية لتبني أفكاره وكيف استدل عليها. ومن هذه المناخات المهمة المناخ الفكري والمناخ الاقتصادي والمناخ الديني وحالة الشخص النفسية والاجتماعية.
ويجدر بنا أن نستعرض هنا بعض هذه المناخات التي ولدت فيها النظرية الماركسية:
المناخ الفكري:
لقد طور الفيلسوف الألماني هيغل نظريته الديالكتيكية التي سماها المترجمون بالجدلية. والجدل يعني المناظرة والمخاصمة لإثبات أو دحض قضية معينة. أما جدلية هيغل فتعني انتقال الذهن من فكرة معينة إلى فكرة تناقضها ثم التركيب بينهما، وتتكرر هذه العملية الذهنية إلى أن يصل الإنسان إلى الفكرة المطلقة. وهنا يجب التأكيد على تركيز هيغل على التفكير في المتناقضات والتنقل الذهني في عملية تصاعدية بحثا عن الفكرة المطلقة.
وجاء بعد هيغل، الفيسلوف فيورباخ الذي اعتبر أن الإنسان ابن الطبيعة وينتسب إليها فهي أقرب الأشياء إليه. لذلك فهو أسس الفلسفة المادية التي ترى أن الطبيعة المادية هي الأساس لأفكار الإنسان وليس العكس. ولاشك أن فيورباخ تأثر كثيرا بنظرية الانتخاب الطبيعي لدارون الذي سبقه، والتي تنص على أن الطبيعة هي التي تتغير فتتأثر بعض الكائنات الحية لتتأقلم معها بينما تموت وتفنى الكائنات الأخرى التي لا تتواءم مع المتغيرات الطبيعية. وهكذا يكون البقاء للأقوى. فالطبيعة في نظر دارون حاكمة على حياة الكائنات ومنها الإنسان.
في هذا المناخ الفكري وضع كارل ماركس نظريته في المادية التاريخية والمادية الجدلية وهي مركب من جدلية هيغل ومادية فيورباخ.
المناخ الاقتصادي:
لقد تأسست المصانع والشركات الغربية منذ القرن السادس عشر تقريبا وبدأت الثروات في النمو وانطلقت الأساطيل الغربية تجوب البحار بحثا عن المواد الخام والأسواق سواء من إسبانيا والبرتغال وبعدها من هولندا ثم من بريطانيا وفرنسا. وتم صيد البشر من إفريقيا وجلبهم إلى العالم الجديد (أمريكا) وبيعهم ليعملوا كالعبيد في الزراعة وغيرها. وقد عانى العمال في الحقبة الأولى من الرأسمالية وحتى بدايات القرن الماضي من جشع المصانع والأثرياء فمات الكثير منهم نتيجة الأمراض الفتاكة وساعات العمل الشاق الطويلة.
ويرى فريدريك إنجلز زميل كارل ماركس أن العملية الإنتاجية والنشاط الاقتصادي الرأسمالي يكون كما يلي:
تتكون وسائل الإنتاج في المصانع غالبا من الأرض ورأس المال (متمثلا في الآلة والتكنولوجيا والنقد) والعمال. وحين ننظر إلى تكلفة منتج معين، (والتي تشمل إيجار الأرض وتكلفة الآلات وقيمة المواد الخام ورواتب العمال وتكلفة التخزين والتوزيع والتسويق)، فهي قد تبلغ دولارًا واحدًا فقط مثلا، بينما يباع المنتج في الأسواق بدولارين. فمن يأخذ فائض القيمة هذا وهو دولار واحد لكل منتج يباع في السوق؟ إن مالك المصنع، وهو صاحب رأس المال، هو من يجني فائض القيمة هذا، بينما لا يحصل العامل سوى على أجره اليومي فقط. وهكذا تتراكم ثروة صاحب رأس المال مع كل منتج يباع في السوق.
وحين تستخدم الآلة في المصانع تقل الحاجة للعمال فيتم تسريح قسم كبير منهم، ويضطر بقية العمال للقبول بأجر أقل من السابق، مما يضعف مستواهم المعيشي. وحين تنمو الشركات وتزداد الثروة وتكبر المصانع وتزداد المنافسة، تخسر المصانع والشركات الصغيرة وينتقل مالكوها تدريجيا إلى سوق العمل بحثا عن عمل يعيشون بأجره، وهكذا تقل الطبقة الوسطى وتزداد الطبقة العاملة وتتضاعف منافستها على الوظائف المحدودة المتبقية.
ورغبة من الشركات والمصانع في زيادة أرباحها فإنها تعمد إلى الدعاية وتشجيع الاستهلاك مما يزيد في تكلفة المنتج ويشجع العمال على الاقتراض لزيادة الاستهلاك. وهكذا تصغط الديون وأرباحها المستحقة على الطبقة الفقيرة مما يزيدها فقرا بينما تزداد الطبقة الغنية ثراء، وهكذا تتولد طبقية فاحشة في المجتمع.
المناخ الديني:
كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى (القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر الميلادي) دينية ودنيوية. وقد لعب البابا دور الوسيط بين الملوك الأوربيين أحيانا. وسمحت هذه المكانة للبابا عام ١٠٩٤ بالدعوة إلى الحروب الصليبية والتي استمرت متقطعة لأكثر من مائتي عام.
وقد دعت الكنيسة المسيحيين إلى الإيمان بالإنجيل وبنظريات العلماء الأقدمين كاعتبار الأرض مركز الكون مثلا، واعتبرتها جزءا من العقيدة المقدسة وأقامت محاكم التفتيش لمعاقبة العلماء الجدد غير المؤمنين بها. كما انتشرت الرشوة وضرب الفساد الأخلاقي والمالي الكنيسة، واستحدثت صكوك الغفران.
وقد ثار لوثر الألماني (١٤٨٣-١٥٤٦) في حركته الإصلاحية على الكنيسة الكاثوليكية متحديا فساد الكنيسة وصكوك الغفران، ودعا الجميع إلى قراءة الإنجيل بلغاتهم القومية بدلا من الاعتماد على قراءة الكنيسة باللغة اللاتينية. وبعدها برز كاليفن كقائد بروتستانتي آخر فتوزعت البروتستانتية بين اللوثرية والكاليفنية. وقد عمت أوروبا الكثير من النزاعات الدينية والحروب الطائفية وسفكت الكثير من الدماء في القرن السابع عشر.
وقد اهتزت ثقة الكثير من الناس بالكنيسة خاصة بعد ثورة الاكتشافات العلمية ونجاح الحركات التي طلبت من الكنيسة أن تنكفئ على نفسها وتمتنع عن التدخل في الأمور العلمية والحياة الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذه الأجواء المشحونة على الكنيسة، برزت بعض النظريات المنكرة لوجود الخالق والمؤلهة للطبيعة. ومنها نظرية دارون للانتخاب الطبيعي ونظرية فيورباخ المادية وغيرها.
في هذا المناخ الفكري والاقتصادي والديني عاش كارل ماركس (١٨١٨-١٨٨٣) وزميله فريدريك إنجلز (١٨٢٠-١٨٩٥) ووضعا نظريتهما عام ١٨٤٨م، وسنستعرض هذه النظرية والردود عليها مستقبلا – إن شاء الله.