لماذا يتميز فقط عدد قليل جدًا من البشر بإنجازات ومشاريع تعبر الزمان والمكان فتخلد عبر التاريخ؟ ولماذا لا يلعب باقي البشر دورهم التاريخي في ساحة الحضارة الإنسانية؟ الجواب هو أن الكثير من البشر لا يملك طموحا، أو أنه يملك طموحا ولكنه يصاب بالبرود والكسل فيتهاون في تحقيق طموحه ويبقى يراوح مكانه حتى تحترق زهرة شبابه ويودع الدنيا دون أن يحقق مشروعه في الحياة.
إن سبب التميز أمران مهمان، هما: الطموح والمثابرة لإنجاز ذلك الطموح؛ لذا يجب رفع سقف الطموح عاليا، فالمرء يطير بهمته كما يطير الطير بجناحيه، انظر مقالة {اجعلني على خزائن الأرض} للكاتب. وهذه ثقافة يجدر بنا أن نزرعها في أذهان الجيل الجديد. إن الطموح الذي يلامس قلب الإنسان، يستغرق نهاره وليله وصحوته ونومه وصحته ومرضه لأنه أغلى شيء يملكه الإنسان، فهو أمله وغايته التي يسعى لتحقيقها ويعيش لأجلها. وهذه هي مرحلة الانسجام والانغماس الكامل في الهدف، التي تشحذ طاقات الإنسان وتفجرها لتصبح كالنهر الجارف المنحدر من قمة الجبل لا تصدها العوائق ولا تحبسها الموانع. وهذا ما يسميه عالم النفس البروفيسور ميهالي سيكز ينتميهالي بالتدفق (flow)، وهو يعادل مستوى مائة درجة على مقياس الاندماج (راجع كتاب يوميات الرئيس، لكاتب المقالة، صفحة ٢٠١). فكلما كان الطموح محبوبا و مناسبا، كلما كان أقرب إلى قلب الإنسان وأعمق أثرًا في تفجير طاقاته.
وفي الحقيقة، هناك عائقان يحولان دون تحقيق الطموح، أولا: تدافع الحياة، و ثانيا: غفلة النفس. وعلى الإنسان أن يكون حذرا في مراعاة الأمرين:
أولا: تدافع الحياة: إن الحياة مليئة بالمنافسة والصراع، وهذه سنّة الله في خلقه ليميز الخبيث من الطيب، {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض}. وفي هذا التدافع تنكسر الكثير من الهمم وتموت الكثير من الطموحات نتيجة خيبة الأمل تارة، وعدم القدرة على التنافس والتدافع تارة أخرى. فيختار الفرد أن يهبط بسقف طموحه إلى مستوى متوسط أو متدنٍ جدا ليخفف من وطأة التنافس وثقل المسؤولية. فمثلا، قد يبدأ دراسته وطموحه أن يحقق جائزة نوبل في علم معين، ثم يبحر في دراسته وتكبر مسؤولياته الاجتماعية فيكتفي بإنهاء دراساته الجامعية أو العليا كالدكتوراه، والبعض قد تضطره الظروف إلى أن يلتحق مبكرا بعمل يدبر به معيشته. وبينما يبقى طموح البعض مشتعلا ونهره متدفقا فيبدع في مجاله الجديد وتزهر له أشجار أخرى في مجالات الحياة المتعددة، يصاب البعض الآخر باليأس والإحباط فتضمر عضلاته وتموت طاقاته وقد يعيش ميتًا بين الأحياء.
ثانيًا:
غفلة النفس: قد تغفل النفس عن طموحها بعيد المدى شريف الغاية، فتغلب العقل وتحرف الإنسان إلى لذات قصيرة المدى تشغله و تشتت تركيزه. خذ مثلا الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تملأ وقت الإنسان وتشتت تركيزه دون أن تحقق إنجازا لطموحه وغايته. إن النفس ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، لذا فهي تحتاج إلى مراقبة شديدة حتى لا تضيع البوصلة وتنحرف مسيرة الإنسان عن طموحه وغايته.
إن الحياة طموح ومثابرة تقهر المصاعب وتفتح الآفاق لمستقبل مشرق، فلا خير في طموح بلا مثابرة. فمن أراد ان يتميز ويحقق طموحه فلتقهر عزيمته مصاعب الحياة، ولتنبه بصيرته النفس من غفلتها.
إن مشوار عشرات السنين يبدأ الآن، فلنرفع سقف الطموح ولنعقد عزيمة المثابرة، وما أسرع ما تنطوي السنوات وتحلو الذكريات، وقد قهر الإنسان المصاعب وانتصر على التحديات وحقق أشرف الغايات، وإن غدا لناظره قريب.