الظعنُ والحادي

مات أمس رجلٌ ذكرني بعُودِ الزمن الذي تتقطع أوتارهُ رويداً رويداً، يُطرب أحياناً ويُحزن تارة، وفي كل الأحوال ليس ذنب العودِ ما أتى بل هي يدُ الضارب وما فعلت. رجلٌ ماتَ يوم أمس عرفتهُ في جلساتٍ قصيرة في مقاهي البلد على كراسي الخشبِ القديمة بعيد الظهر قرب حمام جزيرةِ تاروت حيث يحمل الهواءُ ماءَ الحمام ورائحةَ صابون المستحمين فيه.

كنت صبياً صغيراً حين عملتُ مع القصابِ المرحوم الحاج محمد حسن الزاير وشريكه المرحوم الحاج سعيد الحمود في فترة إجازةِ المدارس وكلاهما عبرا ضفةَ النهر إلى الجانبِ الممرعِ في الآخرة. أوكل لي المرحوم الزاير مهمةَ رعايةَ الغنيماتِ في الصباح ووضع اللحمِ في الكيسِ للزبائن بعض الوقت، أما بعد الظهر فكان كلَّ يوم تقريباً يقصد المقهى، يأتي له صاحبُ المقهى بكأسِ ماءٍ ثم كوباً من الشاي بعدها. وفي هذا الوقت ربما غفت عيناي الصغيرتان حين تهب نسمةٌ تطرد رطوبةَ الهواء وأنا أحاول استكشاف الحياة في وجوهِ الجالسين والمارة.

قد يحضر السيد سعيد السيد علي آل نصيف المقهى في ذات الوقت، رجلٌ في كاملِ الأناقة، ثوبٌ أبيض نظيف وغترة تميل للزرقة قلَّما وضعها فوقَ رأسه بل فوق كتفه الأيمن ويعتمر طاقيةً بيضاء. كانت غترة الكتفِ والسيجارة في فمهِ وكلمات خاصة يحيي بها من يعرف عنواناً له دون غيره وكأنه يغرف من تراثِ الفن القديم الذي أحبه وعشقه. كان السيد أكبرَ مني بعشرات السنين ولم تمنعه تلك السنوات من أن يمازحني، ربما أكثر مما يرغب الطفل الصغير في المزاح.

لم أجلس معه بعد تلك الأيام، حملتنا رياحُ الزمنِ كلاًّ في جهة ولكنني كنت أراهُ ماشياً أو راكباً دراجته في كاملِ أناقته كما هو بالرغمِ من طلقاتِ بارود السنين التي أردت أقرانه، لم تخنه الكلمات ولم تبارح السيجارةُ فمه وكأنَّ الزمن لم يتغير، أنا ما زلتُ صبياً يافعاً و هو شابٌّ في الأربعيناتِ من عمره، حتى قرأت اسمه يومَ أمس في صفحةِ من مروا الدنيا بسلام. أناسٌ عاشوها واستمتعوا بها وكأنَّ الموتَ ليس جزءًا منها!

سلامٌ لك أيها السيد ذكرتني بصباي، وذكرتني أن الحياةَ وإن طالت تصل المحطةَ الأخيرةَ حتماً. لك الآخرة كما كانت لك الدنيا! ليس عبثاً يسأل الناسُ كم كان عمر من مات وتدور في فكرهم عملياتُ الطرح والجمع، إنها محاولة استكشاف الزمن الذي بقي قبل أن يحدو الحادي ويطلب من الظاعنِ الاستعدادَ للرحيل.


error: المحتوي محمي