الحب كلمة قليلة الحروف كثيرة المعاني غزيرة المشاعر عظيمة الآثار على حياة الأفراد والأمم. فماهو الحب؟
الحب هو الميل والانجذاب نحو المحبوب. فحب الأم لوليدها يختلف عن حب الأخ لأخيه وعن حب الفرد لصديقه وعن حب الزوج لزوجته وعن حب الإنسان للمبادئ والقيم التي يؤمن بها وعن حب الإنسان لشخصية تاريخية لم يعش معها.. إن هذا الاختلاف الكبير في نوع الحب ودرجته شغل بال المفكرين والفلاسفة منذ أن وطئ الإنسان هذه الأرض. فالبعض قسّم الحب إلى ثمانية أقسام والبعض قسمها إلى أكثر أو أقل.
الحب عاطفة جياشة يشترك فيها جميع البشر بدوافع مختلفة ومظاهر متفاوتة فهي تمثّل قاعدة تنطلق منها الكثير من مشاعر الإنسان وأحاسيسه وتشحذ إرادته للاقتداء بمن يحب. ومع ذلك فالحب يتلون بالثقافة التي يعيش فيها الفرد.
فالحب لدى المفكرين الغربيين المحدثين كروبرت ستيرنبرغ يتمثل في مثلث الحب برؤوسه الثلاثة المتمثلة في:
(١) الألفة؛ أي الإعجاب.
(٢) الشغف؛ أي الإعجاب الشديد.
(٣) الالتزام أو الارتباط.
فالألفة مثلا تكون مع الأصدقاء والشغف والعشق مع الزوجة والالتزام والارتباط يكون مع العائلة والأبناء وغيرهم.. وهكذا تمثل الأضلاع الثلاثة مستويات مختلفة من هذه العناصر الثلاثة. ويعتبر ستيرنبرغ أن الحب الحقيقي هو ما يجمع بين العناصر الثلاثة من الإعجاب والعشق والارتباط.
أما هيلين فيشر عالمة الإنسان والإنثروبولوجيا الأمريكية فتقسم الحب إلى حب جنسي شهواني حيواني ذي مستوى عالٍ من هرمون التستوستيرون، وحب رومانسي يتعدى الغريزة إلى المشاعر والأحاسيس يتمثل بمستوى عالٍ من هرمون الدوبامين وحب التزامي يصبغ حياة العائلة تغلب عليه السكينة والهدوء ويتمثل بمستوى عالٍ من هرمون الأوكسيتوسين. وقد درست مستوى الهرمونات ودماغ الإنسان للكثير من المحبين فقسمت أصناف البشر إلى:
مكتشفين وبناة ومدراء ومفاوضين.
ويتبين بشكل واضح غلبة الثقافة المادية والحرية الفردية التي تطبع نظريات هذين المفكرين وخاصة هيلين فيشر. ولنا أن نتساءل؛ أين موقع الأصناف التالية من الحب في رأي المفكرين المذكورين:
حب الإنسان للمبادئ والقيم، وحب الإنسان لشخصيات تاريخية لم يعش معها أو يألفها ولكنه عشقها وذاب فيها، وحب الإنسان لشخصيات معاصرة ذات مواقف خالدة، وحب الإنسان لمن أحسن إليه وأكرمه، وحب الإنسان للحيوان والطبيعة، وحب الإنسان لليتامى والمحتاجين والمعاقين ، وحب الإنسان للخالق وجماله. قد يقول البعض إن ستيرنبرغ شمل هذه الأنواع تحت عنوان الألفة (intimacy). والواضح أن الألفة تعني القرب من الأحياء الماديين الذين يعيش معهم الإنسان. وتذهب هيلين فيشر بعيدا فلا مانع لديها أن يكون الإنسان في حب حيواني مع شخص وحب رومانسي مع آخر وحب ارتباطي مع شخص آخر، وهي ترى أن الحياة بين شخصين مدة طويلة قبل الزواج تساعد في فهم الطرفين لبعضهما وتضمن لهما زواجا أكثر استقرارا بعد أن يقررا ذلك. ومع ذلك فهي تقر بأن الزواج المنظم أي غير المسبوق بعلاقات غرامية يكتب له النجاح في الكثير من الثقافات و لا يعني الفشل. وليتها لم تغفل أن المجتمع يحتاج إلى الأسر الثابتة المستقرة والأسر تحتاج إلى أفراد مستقرين عاطفيا وليس إلى أفراد يجمعهم سقف واحد ولكن بقلوب تتطاير يمينا ويسارا لتلهث وراء جمال حسي يتفاوت من شخص إلى آخر.
أما الحب في الثقافة الدينية والشرقية فهو الميل والانجذاب إلى الجمال والكمال. وهذا الجمال جمال حسي وجمال معنوي يشتركان في المحبوب فلا يرى المحب لون البشرة أو طول القامة أو رشاقة الجسم أو حلاوة المحيا إلا مع جمال الروح والأخلاق. وهو ينظر إلى كل جمال فيحبه، فكما يحب جمال الشكل والمنظر فهو يحب جمال الإحسان وجمال العطاء سواء تاريخيا أو حديثا وجمال الطبيعة وجمال القيم والمبادئ وجمال الإيثار بل يراها لأنها كلها تعبر عن جمال الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه. وهذا ما يفسر لنا كيف يحب الإنسان شخصا قبيح الشكل ولكنه جميل الأخلاق ويكره شخصا آخر جميل الشكل ولكنه قبيح الأخلاق. فكل حب لجمال وكمال ينطلق من الحب الأعظم وهو حب الإنسان لخالق الجمال والكمال. وهذا الحب حين يستولي على الإنسان يصبغ حياته ويذيب فؤاده هياما في الخالق وخلقه فهو المنعم والكريم والجميل والرحيم والحكيم والعليم والمشافي والموفق وكما قيل في الشعر:
أحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوىٰ
وحُبْــاً لأنَكَ أهْـل ٌ لـِذَاك
فأما الذي هُوَ حُبُ الهَوىٰ
فَشُغْلِي بذِكْرِكَ عَمَنْ سـِواكْ
وأمّـا الـذي أنْـتَ أهـلٌ لَـــهُ
فَلَسْتُ أرىٰ الكَوْنِ حَتىٰ أراكْ
ومن نعم الخالق وجماله أن خلق لنا من أنفسنا أزواجًا نتكامل معها فننجب الأجيال ونبني الحضارات بنفوس مستقرة تسكن في أحضان دافئة تظللها العفة والوقار: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}.
إن هذا الحب يتربع في قلوب المحبين فيبصرون بعين الحبيب ويحبون لحب الحبيب ويحترقون بنار الحبيب فلا يزيدهم إلا شوقا وعشقا وهياما. فهم يدعون مخلصين: “فَهَبْني يا إلـهى وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ”.
ويناجون محبوبهم صادقين: “إلـهي إنْ أخَذْتَني بِجُرْمي أخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ، وَإنْ اأخَذْتَني بِذُنُوبي أخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ، وَإنْ أدْخَلْتَني النّارَ أعْلَمْتُ أهْلَها أنّي أحِبُّكَ”.