ليست الوحدةُ أن ينبلجَ النهار وأنت تمشي وحدك تملأ رئتيكَ بهواءِ الخريف دونَ من يصاحبك سوى صدى أفكارك وصوتك الذي تسمعه كأنهُ شخصٌ آخر يمشي معك، تفكران وتتكلمان وتقرران، سوياً. الوحدةُ والوحشة تكمن في أن تكونَ مع من لا يفهمك ولا يشاركك ذاتَ النظرةِ للحياة. واقعُ الحال أنه ليسَ من السهلِ أن نجدَ في الأصدقاءِ الكثير ممن يستحق الساعات التي نقضيها معهم “ساعات السلام”، ساعاتٌ نحن نُنشئ مبتدأ الجملةِ وهم يُكملونَ خبرها، فلم نُضيعهم متى ما وجدناهم؟
مررتُ صباحَ اليوم بحطامِ كثيرٍ من العلاقاتِ والصداقاتِ التي كان فيها ساعاتُ سلام فكان واجباً ولزاماً أن أسألَ نفسي: هل كل العلاقاتِ والصداقات انتهت أم أنا من حطمها أيضاً؛ فكل سفينةٍ تحتاج أكثرَ من بحَّارٍ حتى تصل مرساها؟ أصدق جواب توصلتُ إليه أنني لم أكن الضحيةَ فيها كلها بل أنا مَن الذي لم يسع لتحصينها والاستثمار فيها. حتى ساعات السلام التي كنا ننادي فيها بعضنا، أنا وأخوتي، لنجلس على خوانٍ واحد ونأكل بأيدينا من طبقٍ واحد أصابها عطبُ الأيام. هي لم تتبدل إلى ساعاتِ حربٍ واقتتال، لكنها تحولت إلى ساعاتٍ من البرودةِ والجفاء.
ساعات السلام التي فقدتها ليسَ من السهل أن أُعيد عقاربها وأنا الآن أحوج ما أكون إليها، لم يبق منها إلا الذكرياتِ الجميلة. في ساعات المراجعةِ الجادة نرى أنَّ ما كنا نعتقده من أنَّ الناسَ والأصدقاء ينتظروننا متى ما عدنا كان خطأً، فالحياة تمضي قدماً وفي لحظةٍ واحدة لا أحد يفهمنا أو يعرفنا، ولن نستطيع غَزْلَ ما نقضناهُ من جديد!
كان في الماضي القريب على الإنسانِ أن يركبَ السفنَ ويقطع القفار أو يطير ليرى صديقاً قديماً يعيد معه شريطَ ذكرياتِ البسمات وما مضى من زمان. الآن أصبح سهلاً على الإنسانِ أن يبحثَ عمَّن فقد من الأصدقاء دون عناء. وأنا أكتب هذه السطور جالَ في خاطري ذكرى صديق قديم لم أرهُ منذُ مدة، فلما بحثتُ عنه لأجددَ به ما انقطعَ وجدتُ أنه مشى في سفرٍ ولن يعود!
لكلِّ من أهدونا سنيناً أو ساعاتٍ من السلامِ لكم التحايا والسلام، ليست الوحدة في عدمِ وجود أناسٍ من حولنا ولكن الوحدةَ في ألا نجدَ من يفهمنا ويقبلنا على عيوبنا ونقائصنا كما فهمتمونا وقبلتمونا.