«هنا، عند مُنْحَدَراتِ التلالِ، أمام الغروبِ وفُوَّهَة الوقت، قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِّ، نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ، وما يفعلُ العاطلونَ عنِ العمَلْ: نُرَبِّي الأمَلْ».
أتذكر هذا النص الشعري، لمحمود درويش، كلما استرجعت وجوهاً مبتسمة من الشباب الموقوفين بسجن المباحث العامة في الدمام، حين التقيتهم في «المهرجان الثاني لأجنحة برنامج إدارة الوقت»، الذي احتضنته مدينة جدة، يوليو الماضي.
هؤلاء الفتية، بما يحملون من إرادة للحياة، وما مروا به من تجارب وتحولات فكرية وسلوكية، جعلتهم أصلب شكيمة، ويتشبثون بالمستقبل، كشجرة الزيتون المثمرة، التي تزداد عروقها تجذراً بترابها، يوماً بعد آخر، مهما هبت من ريح عاتية!
«نُرَبِّي الأمَلْ»، هو فعلهم اليومي، عبر الانخراط في أنشطة البرامج الإصلاحية في السجون. وهو أسلوب مناقض في منهجيته للتفكير القديم لإدارة «العقاب» في العالم العربي.
قديماً، كان السجن مساحة لـ»الحسرة» الصرفة، لكسر إرادة الموقوف، وتحويله عنصر ضعف، يظل نادماً طوال حياته على خطأ ارتكبه في لحظة من العاطفة الجياشة، أو النزوع الثوري غير العقلاني، أو التأثر بخطابات تحريضية مضللة.
السجن في التفكير العقابي، يكون فيه الوقت عنصراً ضاغطاً، يمر ثقيلاً، كالهواء الكثيف المحمل بالوجع والمرض والذكريات المسمومة. وهو الهواء الذي يلوث فكر الموقوفين قبل أجسادهم، ويصيرهم أفراداً سلبيين، قابلين إلى العودة للتطرف والعنف من جديد.
إلا أن أجنحة إدارة الوقت، في سجن المباحث العامة بالمنطقة الشرقية، هي عكس ذلك؛ لأنها تسمح للنزلاء الاستفادة من وقتهم، عبر الأنشطة المتنوعة: تعليم، رياضة، فنون تشكيلية، إعلام، موسيقى.. وأنواع أخرى من المشروعات الجماعية، التي تخلق روح عمل إيجابية مشتركة، لا تهدر الوقت في نهر الحياة المتدفق.
اليوم الوطني الـ89 للمملكة، في المنطقة الشرقية، ومحافظة القطيف، كان مثالاً على هذا المعنى المختلف للعمل التغييري؛ فقد زينت شوارع المحافظة بأعلام صنعها الموقوفون في سجن المباحث العامة، وشارك في إعلائها سجناء تم الإفراج عنهم ضمن برنامج «بناء».
الحفل الذي احتضنه سجن المباحث، وأعده وأداره الموقوفون، هو الآخر، شاهد على قدرة التحول لدى هؤلاء النزلاء، عبر الشراكة والحوار مع إدارة السجن، والمشرفين على البرامج السلوكية والتثقيفية.
وجود الإعلاميين والأهالي وجمع من شخصيات المنطقة الشرقية في الاحتفالية، بدوره يعزز من مشاركة المجتمع المدني، ويدفع نحو الشفافية، وتحسين البيئة السجينة، وتحمل الجميع مسؤولية إعادة تأهيل هؤلاء الشباب، ودمجهم في المجتمع.
هذا التحول في المفاهيم السجنية، وأسلوب إدارة السجون، هو تطور مهم، يتم بصمت، وبخطوات متتالية، بعيداً عن الضجيج الإعلامي، ويسير نحو أهدافه، منفتحاً على النقاشات المختلفة، والتجارب الإصلاحية للدول المتقدمة، التي نطمح أن نكون في مقدمتها. فما حصل من تبدل دليل على وجود وعي وإرادة حقيقية، ليست قلقة من التغيير، بل عازمة ومصممة على استكماله وتجذيره، كأسلوب جديد أكثر فاعلية وديمومة.
المصدر: صحيفة الرياض