العينُ والحِذاء

ما أسرعَ ما يعطيني صديقي حلاًّ هو الناجع على ما يظن لكلِّ ما أشتكي! له في كلِّ أمرٍ وجهة نظر يعتقد أنني لابدَّ غفلتُ عنها. هذا ما عليكَ أن تفعل وهذا ما عليكَ أن تقول، سيلٌ من الوصايا لا ينتهي! يا عالماً بكل ما تدَّعي: أنتَ لن تفهمني، جراحك ليست جراحي وآلامك ليست آلامي!

عينانِ في رأسِ كلٍّ منا نظن أنَّ بهما يرى الناسُ الأمورَ على حدٍّ سواء، لكنهم يرونَ العالمَ من فوقِ الأرض بعددهم. كل فردٍ منا يرى عالماً مختلفاً ومن ثم يحكم على ما يرى. وكلٌّ منا له قدمانِ تحملانه، تلامسانِ العالمَ من تحته، نظن أنهما تدوسان المتاعبَ والمصاعبَ والبهجاتِ على حدٍّ سواء. ليست كذلك، بل أقدامنا تنقل لنا أحاسيسَ مختلفة جِدَّا عن غيرنا. فإذا أردنا أن نفهمَ أحاسيسَ ومشاعرَ غيرنا كما يراها هو ويشعر بها فما علينا إلا أن ننظر للعالمِ بعينه ثمَّ ننتعلَ حذاءه ونمشي فيه. لعلنا بعد هذا نفهم دوافعه وخبراته قبل أن نُصدر حكمنا على أفعاله وأقواله، وصايا تحكي واقعَ وثقافات الشعوب كلها!

تَمَثَّلت تلك الوصايا لي في رحلةِ مشيٍ طويلة اضطررتُ للراحةِ في بعضها، وعندما أردتُ مواصلةَ السيرِ كان حذائي قد اختفى وحلَّ مكانه آخر يشبهه ولكنه أصغر منه قليلاً. مشيتُ فيه بضعَ خطواتٍ أحسستُ فيها بألمٍ أقعدني عن مواصلةِ السير، ولم أرتح إلا بعدَ أن وجدتُ حذائي الذي اعتدت السير فيه.

كل جدلٍ منطقي مع الإنسانِ في مكانٍ ما لابد أن يهتمَّ ويعتني بفهم كلٍّ منا للآخر، ما يحس وما يحب وما يكره وما يعتقد. أنا وأنت مختلفان أيها الصديق، تعاطف معي وضمد جراحي فهذا هو الدواءُ الذي ينفع ويفتح لكَ كلَّ ما أغلقتُ من نوافذِ سمعي وقلبي وعقلي، فإن كانت عقول البشر أشدَّ اختلافاً فقلوبهم وحواسهم أشدَّ قرباً مما يظنون. التعاطف ليس إلا استعارةَ أعين وأحذية الآخر فلعلَّ وعسى أن نستطيعَ أن ننظرَ للعالمِ من زاويته ونعرف أحاسيسه. حينئذٍ نقترب مما في عقلهِ وقلبهِ من تفسيرٍ لما يَظهر من أفعالهِ ويبدو من أقواله.

لا نختلف كثيراً عن من ننقد، يشوبنَا ما يشوبه من نقائصَ وأكثر، لكن عيوننا تَهدينا إلى نقائصِ غيرنا وتعمى عن عيوبنا. إن لم ينفعنا استعارة عين وحذاء غيرنا كي نقتربَ من مشاعرهِ ومآسيه وأحلامه، فلن يبقى إلا أن نستبدلَ رأسه برأسنا لنكون نحنُ هو وهو نحن!


error: المحتوي محمي