مررت صباح أمس الخميس على مدرستي لأعيد الأيام الخوالي مع الزملاء، والرفاق استقبلوني بالقبلات، ونثر التحيات، قال لي الوكيل مازحًا: سنعطيك 24 حصة فالجدول الجديد ينتظرك، قلت لهم: على الرحب والسعة، ضحكنا وكاميرات الجوال ترصدنا، وصوت آخر يهمس في أذني؛ تقاعدك والله خسارة علينا جميعًا، قلت له: هذا حال الدنيا كل اجتماع وإن طال الزمن او قصر لابد من افتراق، والخير والبركة فيكم وسيأتيكم أناس أفضل مني، وتأكد أني ربحتكم أعزاء وإخوة وستبقون جزءًا من ذكرياتي الجميلة ولن أنسى تكريمكم لي في نهاية العام الدراسي الماضي، سيبقى تاجًا على رأسي.
طالت جلستي بحوارات متنوعة، وختمتها بحديث ثلاثي بيني وبين مدير المدرسة أستاذ مجيد العبيدي وأستاذ أسعد القلاف، والاثنان مغرمان بالتاريخ والفن والثقافة، وأخذنا الكلام عند شخصية غرائبية مثيرة للجدل في تاريخ أواخر روسيا القيصرية، وهو “راسبوتين”، وكيف فارق الحياة بصورة دراماتيكية له ولمن حوله، شخصية إشكالية بين المقدس والمدنس، ونبوءة الموت.
استأذنت الأحبة خروجًا وظلت مشاهد موت “راسبوتين” تعبر خاطري عبر قراءات متفرقة واسترجاع لقطات من فيلم شاهدته عن حياته منذ سنوات، أستذكر مشاهد عابرة وكلمات هاربة وشرودًا عبر الزمن، أطياف صور لشهقات الأرواح وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، دراما الفن والموت سيطرت على تفكيري بعد خروجي من المدرسة، يداي ورجلان تقودان السيارة بسرحان مطلق، أوقظني صوت أذان صلاة الظهر من غفلة التيه، الله أكبر الله أكبر، ومع اقتراب نهاية النداء بـ “لا إله إلا الله”، برق في خيالي معاني جملة النفي والإثبات، اقلب جرسهما الدلالي وأثرهما المحسوس على الأنفس والأنفاس، فحين تسمع تلك الجملة بآخر حرف منها، يتأهب المؤمنون استعدادًا للوقوف بين يدي الله، ونسمعها حزنًا عند لحظات تشييع الأموات، حيث يجر الناعي صوته تهليلًا على روح فارقت الحياة، أرواح تصعد في حمى بارئها كل يوم، وعبارة تتشكل بمقامين مختلفين، نداء وقفة لعبادة يومية بعيدًا عن مشاغل الدنيا وزخرفها، ونداء رحيل عنها للأبد.
حين وصلت البيت أردت أن أرسل الصور التي التقطتها قبل قليل لزملائي في جروب لا يزال يجمعني معهم يدعى “صحبة الأحبة”.
وبينما هممت بالإرسال، إلا وخبر موت في الجروب يصفعني صفعًا، أقرأ متلعثمًا وعيوني ترمش تحققًا ونظرات من غشاوة يا الله “سنابس الحاج خالد الجيراني في ذمة الله”، يا إلهي ما هذا الخبر المفجع، تذكار مشاهد الموت قبل دقائق يهيئنا نفسيًا من حيث لا ندري أم ينبئنا بفقد عزيز، لست أدري، نبأ خاطف صادم موجع، مشاعري مشتتة بين ذهول وعدم تصديق ما أقرأ، تسمرت في مكاني في حالة حزن وعجز، وتذكرت البارحة، كنت في تواصل مع إخوان الراحل (سعيد وحسن)، حين أخبراني عن رحيل “سيمون أسمر صانع النجوم”، تلك آخر رسائلهما الليلة المتأخرة، نمنا وأجنحة الموت ترفرف بألوانها السوداء في بهيم الليل، والقدر ينسج لنا المفاجأة من حيث لا ندري، ويرسلها لنا صبيحة اليوم التالي، جاءنا بالخبر الموجع وغير المنتظر، خالد يرحل عنا!
لا حول ولا قوة إلا بالله، أتمعن في صورة أخيهم الأكبر صاحب الوجه البشوش، وأعيد المواقف المتتابعات لسنين خلت ولحظات سعد وأنس، جمعتني به في رحاب منزلهم وأمام الأبواب وعند مفترق الزوايا والطرقات وعديد الأمكنة، أعيد ودمع العين منسكبًا، بآهات أردد “يا كوكبا ما كان أقصر عمره”، أسأل والغصة تخنقني؛ أصحيح رحلت عنا يا خالد في هذا اليوم؟ لماذا لم تخبرنا بأنك كنت تتوجع، فأنت الكتوم بشكل لا يصدق، تذهب لمواعيد المستشفى خلسة عن أحبابك وترد على أقرب الناس إليك بأنك لا تشكو من شيء، أأنت متعفف عن بث الشكوى لهذه الدرجة، أم أن روحك الجميلة لا تريد أن ترى وجه أي أحد تنعكس عليها ألمك، ترد على من يسأل عن صحتك بابتسامتك المعهودة، “الحمد لله بخير وعافية، القناعة زينة في الحياة”، أي نفسية كنت تملكها، مشاعرك الرقيقة لا تريد أن تكدر خاطر أي أحد.
وكأنك تقول لنا كل ملء بالهموم والأوجاع ولا تريد أن تزيد الآخرين أي وجع أو أنين، يكفي ما فيهم من متاعب، فأنت بشهادة أهل بيتك عديم الشكوى، لا تعرف للتذمر محلًا والرضا من طبعك، عشت كافًا عافًا، مسالمًا مع الجميع.
يا خالدا ماذا أقول في حقك، يا راحلًا عنا دون إنذار، نعم عشت مكافحًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، أبوك حجي صالح رحل في عز الشباب وهو في العقد الرابع من عمره، ترككم أطفالًا، وأنت ابن 17 كبير الإخوان، فكنت لهم بمثابة الأب الحنون والمربي العطوف، تحملت عبء أسرتك، جاهدت وأنت صغير في العمر لكنك كنت كبيرًا في تحمل المسؤولية، قاسيت وعانيت وتنازلت عن اللحاق بالجامعة وتركتها مكرهًا بحثًا عن عمل في سبيل لقمة العيش لك ولإخوانك، كنت العقل المدبر “بخلق واسع” وطول أناة، تحفكم دعوات والدتكم وبصبرها وحكمتها، فأوسع الله عليكم جميعًا مع التفافكم في يد واحدة.
يا خالدًا أعرف أن قلبك كبير لا يعرف إلا الحب والود للناس، خلوق وعطوف، لم أرك تجادل أحدًا ولم أرك يومًا عابسًا، كلما تقابلني تحييني بفرح طاغٍ، طوال لقاءاتنا الابتسامة لا تفارقك، ونبرة صوتك معتدلة، محببة للأسماع.
كم يخجلني ثناؤك المسترسل في كل مرة على كتاباتي المتواضعة، تبدي إعجابًا شديدًا بخربشاتي اللونية أو خاطرة عابرة، كنت تواقًا لأي مقالة أكتبها، بل تسعى لنشرها والحديث عنها، ولا يهدأ لك بال إلا حين تقابلني لتسمعني ما لذ وطاب من مدح الكلام.
آخر مرة تقابلنا قبل عيد الأضحى قلت لي ويدك تصافحني، بحرارة وبقوة ضغط غير معهودة منك وطالت مدتها حتى أحسست بنبضك، أسمعتني أحاسيسك الصادقة “الحين أنت يبومحمد تقاعدت، أتحفنا بإبداعاتك، تراني والله أنتظر كل جديدك”، قلت لك: “والله يا عزيزي ما أوعدك، لكن أكتب حسب ما يعن على البال، أتمنى يا أبو الوليد أكون عند حسن ظنك”، لم أكن أدري أن هذا هو آخر اجتماع بيني وبينك، وآخر مصافحة تتلامس فيها الراح بالراح.
كم مرة تسأل عني الإخوان “ما هو جديد الأستاذ الغالي؟”، كيف لي أخبرك اليوم بأن جديدي سطور تنعيك، وتنخيك بأسف خالٍ من أي لقاء، أنين أسى لا ترقبها عيون الانتظار، آهاتي يا خالد مكبوتة وكيف تصلك كلماتي وأي عنوان أرسلها إليك، لكن كتابتي عجلى وخجلى وعاجزة عن الإيفاء بحقك.
ما إن تناهى نبأ رحيلك، إلا والأحباب التفوا لتشييعك، حين وصلت لمصلى المغتسل، كنت لا أرى الوجوه أريد فقط إخوانك الخمسة، كيف لي أعزي إخواني أمام الجموع، أخذتهم بالأحضان، تناثر الدمع على الأكتاف سخيًا، جلست بجوار أخيك الأصغر (سعيد)، أهدئ من روعه، وأربت على كتفيه، يا عزيزي، هي الدنيا مفرقة الأحباب، وقبور النائمين تخبرنا بالتياع وحرقة، دموع تنساب على خدود الإخوان كلما صافحوا أحدًا من معارف وأقارب، الأنين يغالب سعيد، ويقول وهو يجهش بالبكاء: “خالد ما كان فيه شيء أدهشنا موته”.
سرعان ما فتح لي أبو سارة جواله، وهمس لي قبل الصلاة على روح المرحوم “شوف يا بو محمد ويش كاتب لي أبو الوليد في تصبيحة هذا اليوم”، قرأتها وسرت قشعريرة في جسمي، صورتها بجوالي في الحال، كلماتك يا خالد أنبأت إخوانك عن ماذا؟ “خالد الجيراني أبو وليد – ابتسم، فلن يتغير العالم بحزنك، كن قنوعًا بحياتك، واستمر بالتفاؤل”، “للصباح متعة وجمال، لا يشعر بهما إلا من استقبله بالرضا والابتسامة والامتنان”، رسالتان يشير وقت الإرسال إلى التاسعة وخمس وثلاثين دقيقة، وعند العاشرة أسلمت الروح وصعدت إلى بارئها.
أي حزن يغالب الأحباب وأي نحيب يسمع بين جنبات المقبرة، فعند خروجي من مراسم الدفن همس لي سعيد باكيًا: “أبو الوليد وصاني إذا جاء عبد العظيم إلى البيت أخبروني خاطري أشوفه وأجلس وياه، رديت عليه، أنا وحسن متواعدين معاه مساء الجمعة بعد ليلة الدفنة، قال وهو مبتسم: على بركة الله نلتقي كلنا سوا”!
كلمات أوجعتني وأنا أرى مغيب الشمس بين النخيل، وأعلام القبور ترفرف بحزن مع أحزان أيام عاشوراء، فتذكر مصائب أهل البيت هي السلوى عند فقد الأحبة، قالها الناعي على قبرك، وأردف: “رحمك الله يا بن العمة”.
أتذكر حين قلت لك يا خالد: “كنت أود لو حضرت مع الإخوان حفل تكريمي”، وكان جوابك لي “بالفعل يا بو محمد كان ودي أحضر حفل تكريمك ولكن سامحني انشغلت”، برقت عيناه بدمع، وعرفت سرها فيما بعد من أخيه سعيد، وباح لي “فعلًا كان متأثرًا بالتغطية والصور، خصوصًا صورتك وأنت تبكي جالسًا أبو محمد، يسولف لي دائمًا عنها، أبو وليد عاطفي جدًا وغبون وأبو دمعة سريعة”.
يا خالدًا يا راحلًا عنا، أي دمعة تسافر إليك وتخبرنا بأننا نحبك حبًا جمًا، ستبقى خالدًا في نفوسنا للأبد، وداعًا يا ذا الخلق الكريم أيها المتسامح، وداعًا يا صاحب الابتسامة الدائمة.
عظم الله أجوركم يا أعزائي أبناء الجيراني وكل أرحامكم والأقارب، وعزائي لوالدتكم الصابرة والمحتسبة لله، البقاء في رأسك يا أم خالد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
حين وضعت آخر نقطة وقبل مراجعة ما كتبت، وصلتني رسالة من أخي “سعيد الجيراني” كان كتبها المرحوم خالد عام 2012، كلمات أبكتني في هزيع الليل، يقول فيها “عند عتبة الموت وغروب الشمس، وهمسات الهواء الباردة، واحمرار السماء، هنالك الأموات يختبئون وراء الأبواب المغلقة مع نسمات وصوت حفيف سعف النخيل الهادئة، وبين الزهور الذابلة وأغصان الرياحين اليابسة، نصمت، نفكر، نبحث، عن جذع نخلة متكسر وصور باهتة من أشعة الشمس الساطعة، وبين الأماكن، ندور، نصرخ، لكن لا أحد يسمع صراخنا، عالم يأخذنا إلى التأمل والغرق في بحر الأحزان، ووداع الأحبة مثل الأغصان الخضراء التي ماتت بين كل الزوايا ولوعات الفراق الصعب، تنهمر الدموع كالمطر، نشتاق للماضي الجميل وصور الذكريات السعيدة، حتى تكاد تخنقنا أنفاسنا لولا العودة للحياة، مودعين غصات الموت وآهاته المؤلمة، لنعيش الحياة والحزن مرة أخرى تغمرهما الدموع الساكبة”.
كلمات صدق أوغلتني، توهان في كنه الحياة وخبايا الموت وصورة الراحل، وتساءلت: “لماذا يرحل عنا الذين نحبهم؟”، آه أبعد رحيلك يا خالد أكتشف أن لك قلمًا بارعًا؟ هل أقف على قبرك معاتبًا لماذا لم تخبرني عن كتاباتك وخواطرك الرائعة، يا عاشق الحرف وصاحب الابتسامة المتألقة، كنت تملك قلبًا حنونًا يفيض محبة للناس، يا خالدًا هل نجتمع هذا المساء في رحاب بيتكم؟ كم أنا مشتاق إليك أريد أسمع حكاياتك، تعال أرنا وجهك الضاحك البشوش، أعتب على من يا خالد؟ ولكن لا على الموت معتب.