إن جلوسك ساعة واحدة تحت منبر آية الله السيد منير الخباز – حفظه الله – لمدة عشر ليالٍ؛ يعني قراءتك عشرات الكتب المفيدة، واستيعابها، ومحاولتك تطبيق خلاصتها بأعلى معايير الجودة والكمال، فضلًا عن الشعور باطمئنان نفسي غير معتاد؛ لأنك ترى فيه الامتداد الطبيعي لأولاد الأنبياء والمعصومين.
إن الإنسان الرسالي الذي نذر نفسه وحياته منذ نعومة أظفاره لله، ولآل محمد، وللعلم – كالسيد منير – بلا شك يبلغ سؤله، ويُرزق أمنياته بغير حساب.
إن ما وهبه الله جل وعلا للسيد من ملكات بيانية وأسلوبية، وتفكير منظم، وترتيب للأفكار، وتحكم في الصوت ولغة الجسد؛ كان ثمرة علم متواصل، وبحث، واستقصاء، وجدية، فضلًا عن ذاكرة قوية، وذكاء حاد، وقدرة عالية على التحصيل والإبداع والصياغة والاستقراء؛ ولم يكن ذلك عفو الخاطر بحال.
قد يكون الخطيب عالمًا كبيرًا لكنه لا يمتلك الفنون البيانية العالية التي تسهل على الناس الاستيعاب والتحصيل، وبأجمل العبارات، وأيسر الطرق، فالخطابة فنٌّ سامٍ لا يتقن أبجدياته إلا المجدون المثابرون.
كل شيء في الحياة قابلٌ للفناء والتلاشي إلا العلوم والمعارف والقراءات فهي متجددة، يموت الإنسان وتحيا معارفه، لذلك فالخطباء العالمون الذين يطرحون أبحاثًا علمية فعلية، ويغذون عقول الناس بالمعارف الحقة، ويغرسون قيم السماء بطرائق نوعية متجددة يبقون خالدين وإن رحلوا.
وما الدكتور الشيخ الوائلي والسيد منير إلا مثايان مشرقين، ورائدين عظيمين من رواد الفن المنبري الرسالي، وكيف لا يكونان كذلك وقد جسدا بسلوكهما وثقافتهما أقوالهما حقًا حقًا، وكانا نثارًا من نثار آل محمد الطاهر النقي.
المنبر الحسيني هو الجامعة الكبرى التي يستقي علومها ومعارفها كل البشر دون استثناء باختلاف أعمارهم، وثقافاتهم، ولهجاتهم، لذلك ينبغي أن يكون أساتذتها سفراء الحسين الذي أحيت قيمه، وأخلاقه، وعلومه الحياة وأفاضت عليها عطاءً بعد عطاء.
إن أدنى واجبات الأستاذ الرسالي في جامعة الحسين (الخطيب) أن يحترم عقول الناس قاطبة، ويطرح علمًا، وفكرًا، وثقافة عالية تناسب النهضة العلمية المعاصرة؛ شريطة أن لا يغفل – تحت أي مبرر – الجانب المأساوي لملحمة الخلود الأزلي بجوانبها المتعددة، والتي كانت السبيل لخلود الدين واستمرار الفضيلة.
وعليه؛ فإن للسيد منير حقًا عامًا وخاصًا على كل القطيف – بشرًا وحجرًا ومدرًا – لأنه غرس بذور العلم في المنبر الحسيني، وأسس مبادئ التفكير للخطيب وللمستمعين، وغيّر في منهاج الخطابة التقليدي ورسالته، وأخرج إضاءاته للعالم الخارجي بما يتوافق والتغيرات الحياتية الحديثة.
كل الذين انتقدوا منبر السيد منير وأطروحاته العلمية – بلا مبرر – تلاشوا وتلاشت أفكارهم معهم وبقي السيد منير علمًا خفاقًا يحاكي السماء علوًا ومكانة، لأن ما كان لله يبقى، ومان كان لغيره يفنى كزبدٍ في بحر.
وعليه؛ نأمل – نحن الشباب – من الخطباء أن يقتفوا أثر هذه المدرسة المنبرية التي تُعنى بالروح والفكر وتُغذّيهما بالتوازي، وأن يطرحوا علوم السماء، وعلوم آل محمد، وعلوم البشرية لينهضوا بمجتمعاتهم ويبنوا أجيالًا متعلمة واعية قادرة على قيادة الأمم، ويعيدوا صياغة العقول القديمة لتواكب متطلبات العصر، مع المحافظة على التراث القيمي الصحيح بعد غربلته.
الحسين عليه السلام هو بستان المعرفة المقدس، ومشروع السماء الأول الذي حمل خمائل الدين والعلم والخلق بأبهى صوره، كما أن كربلاء حملت إضاءات لو فُتِحت نوافذها على الحياة لأصبحت فردوسًا يغطي سناه وألقه كل الوجود؛ وهذا أمرٌ يوفق الله له المخلصين من عشاق الحسين الذين ذابت مهجهم وأرواحهم فيه حتى غدا صوتهم العذب في كل مكان.