في الأيام الأخيرة من ذي الحجة دائمًا ما أضع يدي على قلبي أخشى أن أموت بحسرة فيها وأنا بعدُ لم أدخل حضرة الحسين (ع) في شهره، ويحزنني فقدان أي شخص كان له بصمة بخدمة الحسين حين أسمع بخبر موته قبل أن يدخل لأيام التجارة الذي تعود فيها بذل كل ما لديه في خدمة حسينه.
ليأتي شهر المحرم وعيننا لا تفارق أماكن جلوسهم أو مكان خدمتهم التي تبكي عليهم فتثيرنا بحزنها عليهم لنترحم عليهم لنقول: كان هذا مكانه رحمه الله وهذا مكانها رحمها الله، ولا نشك أن أرواحهم تحن لمكانها بمجالس الحسين (ع).
لكن هذا العام وقبل دخول محرم بثلاثة أيام فجعني الموت حين اختار قطعة من روحي؛ حيث سل روح أختي وصديقتي الغالية مريم من جسدها المفترش سرير العلة بالعناية، ولم يمهلها هذه الثلاثة أيام الأخيرة لتدخل في أمان الحسين بأيامه لعل يده مقطوعة الخنصر تمسها بلطف عنايته بدل عناية البشر بالمستشفيات.
لم تكن العلة والمرض وليدة وقت قريب فهي منذ الصغر مريضة بمرض نادر بالدم وقرر الأطباء عليها عمل زراعة للنخاع ليرتفع إنتاج الدم وبعد مواعيد طويلة كانت بداية تنويمها بالرياض منذ شهر ربيع الأول، وأتذكر العام الفائت بهذه الأيام كانت في حيرة من أمرها لأنها كانت تريد مرافقًا يرافقها برحلة ستتعرض فيها للعلاج الكيماوي وقد تحتاج إلى من يسندها بحالة الضعف التي ستصيبها منه، ومن دون تردد عبرت لها عن استعدادي لذلك فما قيمة الصديق إن لم يقف لصديقه في محنته؟!
وحيث لم يكن الوقت محددًا حينها لكن تمنيت في داخلي وربما قلت لها إنني اتمنى ألا يكون في أيام الحسين لأنني سأكون بين نارين، خاصة أننا نُقيم أيضًا عاشوراء ثانية بالمنزل ولا أستطيع تركها، وكانت تستعطفني بقولها: إن فيه أيضًا قضاء حاجة مؤمن لكن تركت الأمر على الله بتدبير الأمور لوقتها.
ومع رحلة اختيار المتبرع المناسب والتحاليل الخاصة بهما التي لم تنقض إلا بشهر ربيع الأول لتتنوم فيه، لكن مريم ذهبت برحلة علاجها دون مرافق للأسف لأن والدي لم يوافق على ذلك وأمي وإن كانت موافقة بلسانها ولكني شعرت من تلمحياتها أنها تريدني أن أبقى، وللآن عالقة بذهني جملتها لي حين ساءني تركها وليس هناك من سيرافقها من أخواتها لظروفهن لتقول مواسية لي: “لا بأس غناتي طول عمري أتنوم من غير مرافق وهذه الختامية إن شاء الله ما أحتاج بعدها تنويمًا”، وكنت أعلم حين قالتها كم غصة بحلقها لأنها كانت سعيدة جدًا حين كان الاتفاق أن أكون من أرافقها.
كانت جملة مريم صادقة وتحققت فعلًا حيث لن تحتاج إلى تنويم بعدها لأنها غدت اليوم نائمة في قبرها نومًا طويلًا ولا تحتاج لطلب مرافق.
رحلة عشرة شهور قضتها وحدها حتى لو تخللها لطف الله عليها بفترة انتقال أمها لها حين خرجت من المستشفى لكن بقت بالرياض لإتمام مواعيدها الباقية بالمستشفى، كانت في بداية رحلتها الأكثر تحملًا وقوة لتلقي العلاج بروح متفائلة وإيجابية، خرجت مريم قبل عيد الفطر بأيام لتعود لبيتها الذي اشتاقت له كثيرًا لكنها لم تلبث أسبوعًا واحدًا فيه لتعود يوم العيد للمستشفى بحقيبة صغيرة لم تتوقع أن تكون الحاجة لحقيبة أكبر حين تطول المدة لتقضي معها فترة علاج جديدة في غرف الطوارئ على مدى شهرين قبل أن تنتقل للعناية لتكون الأقل بمستوى النفسية التي قلّت معها الشهية للطعام أكثر ومعها كان فقدان الشهية للحديث مع أحد وكان الاختلاء مع مرضها.
حتى كنت أستميت عليها لأحادثها لعل ذلك يرفع من معنوياتها أو يغير من مزاجها، ولكنها تتعذر بأي شيء ولا أخفي أنني أشعر كم تحبني لأنها لا تريدني أن أراها بصورة أبكي لها، وكانت تقول إنها تجبر نفسها على الحديث حتى تطمئن والدتها وإلا فهي لا مزاج لها بالحديث.
وحيث كانت في بداية دخولها للعناية كنت أحادثها عبر الواتساب وكانت تطمئنني بأنها بتحسن رغم شعوري أنها ليست بخير، ولكن مذ جاء عيد الأضحى وأردت معايدتها كنت أرى أن الرسائل لا تصل والهاتف مغلقًا، هنا شعر قلبي بالخطر عليها وبين أيام قضيتها بوجل وخوف بالبحث عن طريقة للوصول لأخبارها إلى أن تأكدت أنها تحت العناية الإلهية وانقطع اتصالها مع البشر لدرجة وصلت بعدها لأن أتابع حساب وفيات الأحساء وقلبي يوجعني ويتمنى ألا يرى اسمها فيه، وجاء عيد الغدير دون مؤاخاة لها بالهاتف أيضًا فقط يصل بيني وبينها الدعاء الذي كنت أضعها أمانة عند كل إمام ومعصوم أحضر مجلسه بحزن أو فرح.
إلى أن جاء صباح الأمس حيث استيقظت فيه على غير العادة ليجفيني النوم عند محاولة العودة، وحين تأتيني هذه الحالة أشعر أن هناك شيئًا ما سيحصل، وبالفعل حدث ما خفت منه إذ وأنا للتو أرسل منشورًا بحسابي بالإنستقرام ليلوح لي خبر موتها بصفحة الوفيات التي كانت تخبر أنها دُفنت بالليلة الفائتة ليلة الجمعة وأخبروني لاحقًا أنها قد توفيت صباح الخميس.
بشائر الخير التي كنت أنتظهرها حين أفتح عيني كل يوم وبقلبي أمنية أن تحادثني بنفسها لتقول: أنا بخير وعدت لبيتي لأقرر زيارتها راحت أدراج الريح، وزيارتها وهي متعافية تستقبلني بغرفتها تبدلت لأن أزور بيتها في مجلس عزائها وهي متوفاة.
وحتى القرآن الذي أخذته لها كهدية بآخر زيارة لي للنبي الأعظم (ص) بالمدينة ونقشت عليه اسمها ولم أخبرها به لأفاجئها به حين تتشافى، فاجأني حين قرر أن يبقى عندي ذكرى أليها ومنها أقرأ فيها اجزاء الرحمة على روحها الطاهرة.
حقيقة كلما أردت التوقف عن الكتابة عن مريم أجد قلمي لا يستطيع إلا البوح بجمال إنسانة لن أجد مثيلًا لروحها، فمهما كان لدي من صديقات ولكن صداقتها كانت بملء الفم أقولها صداقة حقيقية، فقد أتضايق من أي كلمة من صديقاتي لكن يستحيل علي الزعل من كلمة قالتها مريم مهما كانت شدة توبيخها لي لعلمي بمقدار حبها لي لهذا فهي لا تجامل على حساب نصحي.
مريم صديقة الجامعة التي كان يغار صديقات القطيف حين أتركهم وأرافقها، وهي نفسها التي تطلق عليها أمي حين تعرّفها لي حين أتحدث عنها لتقول: أتقصدين “مريم التي بكيتي عليها”؟
حيث بآخر يوم لنا وبآخر سنة بالجامعة اتفقنا على الذهاب للجامعة لغرض توديعها وقضاء وقت سويًا قبل رجوعي للقطيف ولكنها بالليلة التي سبقته تنومت وكان هاتفها مغلقًا، وبعد نياحة أفسدت فيها أنس رفيقات السكن بآخر يوم لهم بمحاولة تهدئتي ووصلت النياحة لأمي لتطلق عليها هذا الوصف الذي تحول من صيغة الماضي إلى صيغة المستقبل ليكون “مريم التي أبكي لها” فهي شخص يستحق البكاء عليه.
ولنا في الحزن على الحسين بأيامه خير سلوى ومعين لفقد الأحبة، فإن كانت مريم التي توفت بغربتها ووحدتها لكن ابن رسول الله (ص) وحدته وغربته لا تقاس بواحد من البشر، وإن وجدت مريم من يغمض عينيها التي شبحت للموت وغُسلت وكفنت فإن الحسين مدلل الزهراء لم يحصل له ذلك.
الشابة السعيدة مريم الجريدان رحم الله من أهدى لروحها الطاهرة ثواب الفاتحة.