حينما لا تتحول الكتابة إلى ترف

يقول الشاعر والناقد الإنجليزي ستيفن سبندر في محاضرته، التي جاءت بعنوان “الواقعية الجديدة والفن”: إن الفنان يأتي في يراعه، حين يكتب، تحليله للمجتمع، الذي يعيش فيه تحليلاً عميقًا، فيه أكبر عدد مستطاع من الحقائق، التي يدركها بنفاذ بصره، وفي موضع آخر، يهمس: إنني أشعر بالرعب من كتابة الشعر؛ فالقصيدة رحلة مخيفة، وجهد مؤلم من أجل تركيز الخيال. لذا فإن الكتابة بمختلف ألوانها، لا تأتي، كعدسة الفوتوغرافي، تنقل الواقع البصري كما هو، لكنها نتيجة استيعابية لما يبصر، لتنطلق الرؤى في إحداثيات ثقافية ملهمة.

إن لكل فن من الفنون الكتابية أسسه وقواعده المنطقية، التي جاءت من خلال مجهودات أهل الاختصاص في ذاتية الفن، الذي تعتق طرحًا، مع مرور الوقت. المقال، يأتي فنًا كتابيًا أدبيًا، كونه قطعة نثرية لها أسسها وقواعدها، التي لا استغناء عن بعضها، إن لم يكن كلها -على أقل تقدير-، وتجيء في الفكرة -الموضوع-، الذي يمثل الأساس في كتابة المقال، والتدرج البنائي -التسلسلي-، التصوير الذاتي، والمفردات الدلالية المشرقة الوضوح، واستشراف الملاحظة الدقيقة، باقتناص اللحظة الكتابية، والتعبير عنها، والاهتمام النحوي والإملائي.

وعليه، فإن كاتب المقال ينبغي أن يأخذ بهذه الأسس والقواعد، أقلها الرئيسية منها، وإن جاء المقال كلاسيكيًا في صياغته، وبنائه الجمالي، إلا أن رسالته ستكون واضحة للقارئ.

إن العالم الافتراضي؛ قنوات التواصل الاجتماعي، وسهولة النشر الإلكتروني، كل هذا أفرز نشوة ذاتية، تساعد على استفحال الرغبة في الكتابة، وتسطير الأفكار، وسكب المشاعر، ونسج الأحلام والتطلعات..، لدى الإنسان، كذلك إبداء الرأي والمناقشة فيما يحيطه من دراما اجتماعية، أو طرح علمي، أو ثقافي أو أدبي..، بكونه عنصرًا من عناصر المجتمع، الذي يتأثر به، ويؤثر فيه. لذا فإن الاجتهاد والتعلم الذاتي يزيد من حصيلة الكاتب، إضافة إلى أهمية المراجعة، وعدم الاستعجال، واستبدال المفردات الركيكة، بكلمات لها أكثر فاعلية.

حين لا تكون الكتابة ترفًا، يأتي الكاتب فنانًا، يبصر الأشياء، لوحة تشكيلية، تحتاج إلى التعمق فيها، ليتضح المعنى المراد. من هنا، يأتي السؤال: ماذا أريد أن أقدم للقارئ، وبعده، سؤال آخر، حين نضع أنفسنا في مكان المتلقي: هل استطاع الكاتب أن يوصل ما أراده. ثمة أهمية بأن يمارس الكاتب النقد؛ نقد ما كتبه، لينتقد ذاته قبل الآخرين، ليستطيع وضع إصبعه على الأخطاء، ويقوم بتعديلها، ليأتي النص متكاملاً بنسبة عالية.

إن القراءة المتنوعة، إثراء ثقافي، يثري الكاتب. قراءة ما ينتجه الكتاب، أكانت إبداعية، أو أقل منها إبداعًا، فإنها تفيد الكاتب، ليتعلم من المبدعين نقاط الإبداع، ويتعلم من الأقل إبداعًا نقاط الضعف، وفي الحالتين يمارس التعلم. لذا، فإن القراءة النقدية الذاتية، لكل ما يكتبه الكاتب نفسه، أو ما يفيضه الآخرون، تعد فائدة كبيرة، لا تتطلب إلا القراءة بهدف التعلم.


error: المحتوي محمي