الهائمون

يعتقد البعض من الناس أن الجدية أو الحدة في التعامل مع الآخرين هي الأسلوب الأجمل والأكثر فاعلية، ظناً منهم أن ذلك يعني السيطرة، وقوة الشخصية، وإثبات الذات، وبسط النفوذ.

وهذا التفكير البسيط ليس صحيحا؛ لأنه يعكس شعوراً بالنقص ليس إلا.

أما التعامل بالحب، والاحترام، والذوق الرفيع، والخلق الحسن، ولين الجانب فيجعل الآخر يهيم فيك دون شعور، حيث تتحرك أحاسيسه تجاهك بجاذبية غير محدودة لا إرادياً.

النفس البشرية فطرت على الجمال، والكمال، والحب، والسعادة.

فن التعامل مع الناس لا يحتاج إلى معجزات ولا أساطير، وإنما يحتاج لسعة في الصدر، ومرونة في التواصل، ولباقة في الحوار، وذائقة في الكلمات والمشاعر، ومعايشة عند الإصغاء ممزوجين بطهارة قلب ونقاء سريرة، وذاك أمر يسير يستطيعه كل أحد إذا كان راغباً فيه.

حديثاً؛ لجأ الكثير من الناس إلى التعامل بالحب، أو الإدارة بالحب، أو العلاج بالحب في تربيتهم، وأعمالهم، وتعليمهم وسواها، ووجدوا أن الثمار اليانعة التي قطفوها من هذا المنجم العظيم أكمل، وأجمل، وأثمن، وأكبر من كل الثمار السابقة التي نتجت عن القوانين الجافة، أو الخطط اليابسة.

إن أيسر السبل لكل جميل – مهما كان شاقاً – هو التعامل بالحب.

بالحب تستطيع أن تحول النار إلى قبس من نور تضيء الدنيا بإشراقه، بالحب تجعل الجامد سائلاً في لحظات، بالحب تبلغ السماء السابعة وأنت في مكانك، بالحب ترسم السعادة على وجهك ووجوه من حولك وعلى جبين الزمن، بالحب تملك البشر والحجر والمدر، وتكون سيداً في كل العوالم، بالحب تجعل المستحيل ممكنا؟ وتصنع المعجزات.

إن قبلة صادقة من زوجٍ محبٍّ لزوجته وهي في العناية المركزة كفيلة بعودة الحياة لكل أعضائها المعطلة، إن احتضان الأم لابنتها الصغيرة بحب وابتسامة ينعشها لسنوات وسنوات، إن بسمة صديقٍ محب لصديقه عند الصباح تجعل الكون يتراقص في عينيه.

إن السماحة، والبشاشة، واللطف، والأناقة، واللباقة، والذوق، والهدوء ملكات خلقت فطريا مع كل الناس، غير أن البعض طمسها، أو بعضها باختياره أو بدون اختياره.

إن أيسر السبل للوصول إلى قلوب الناس هو حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بالحب الصادق الذي يطهر الدنيا من كل دَنَسٍ أصابها مهما بلغ.

الحب هو صابون القلوب الذي يحول أدران البشر إلى مقدسات خالدة، وهو القناة التي تصيّر الدنيا من صحراء قاحلة إلى غادة تحوطها الخمائل من كل مكان.

حتى الذين لو أسقيتهم دمك وأطعمتهم لحمك ولم يحبوك، سيخففون من عداواتهم لك، وبالتالي سيخفت شرر نيرانهم الملتهبة.

الحب هو زمزم الجنة الذي يُطبّب الأرواح قبل الأجساد، ويرويها ألقاً وابتهاجاً وسعادة.

إن أسمى المنازل وأعلى المراتب أن تكون حبيباً عند من تحب، لأن الحبيب يطاع ولا يعصى، ويعطى دون سؤال، ويكرم بلا طلب، ويملك في كل شيء، لهذا لقب المصطفى الأكرم بحبيب الله.

الحب لا يختلط – قط – بمصلحة، ولا رغبة، ولا طموح، ولا أمل، ولا أمنية، وأن تحب كل شيء لحبيبك، ولو لم يكن لك منه شيء مطلقاً، يكفيك أن يكون سعيداً أينما كان وكيفما كان.

الحب يخلو من الهوى والعشق، لأنه قرين الطهارة المحضة الخالصة، فإن اختلط بشيء خرج عن معناه، ونزل من عرشه المقدس.

لو يعلم الناس عمق الحب الذي بلغ في قلب علي عليه السلام تجاه سيد البشرية محمد (ص) لأدركوا أنه أقرب إليه من نَفَسِهِ الذي يتنفسه.

الحب هو أن يرى المحبُّ صفات الله كلما نظر إلى حبيبه وفي أي حال كان، وفي أي وقتٍ ومكان.

الحب هو الوسيلة العظمى، والأسمى للوصول إلى العرش وبلوغ الفردوس الأعلى، لذلك كان أقرب الناس لله هم الهائمون فيه.

لا يخفى على أحد منّا كيف تجلّت صفات الله في الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء في عين عابس الشاكري، وكيف أنه استعذب الموت في سبيله، ولم يشعر بألم الطعن والذبح.

الهائمون يَرَوْن مظان رحمة الله الشاملة الكاملة تتجسد في المحبوب، لذلك يسترخصون حياتهم لأجله، ويموتون ليحيا، ولا يتأثر حبهم بالغيبة أو الظهور، ولا بالموت أو الحياة.

الحُب يعني التفاني، والإيثار، والتضحية، والأنس، والسعادة في سبيل المحبوب، والشعور بالاطمئنان النفسي الكامل معه.

لذلك كان العباس، وإخوته، وأرحامه وأصحابه هم الهائمون، لأنهم جسدوا كل معاني الحب، وكل أبعاده، وتجلياته في ملحمة الحب الأزلي المقدّس في كربلاء.

وخلاصة القول أن الدين هو الحب، كما روي عن صادق آل محمد عليه السلام : “وهل الدين إلا الحب”.


error: المحتوي محمي