الحكيم وسفينة النجاة

جلس الحكيم وحوله أبناؤه وهو يأخذ أنفاسه بصعوبة، فأراد ان يسقيهم ماء الحكمة ويروي عليهم قصة سفينة النجاة.

أطرق الأبناء أسماعهم فبدأ الحكيم قصته وقال:

في إحدى الجزر البعيدة عن اليابسة ركب جمع غفير من الناس إحدى السفن الكبيرة لتقلهم إلى جزيرة أخرى، أبحرت السفينة وكل شيء كالمعتاد، بعد عدة أيام وحين ابتعدت السفينة عن الجزيرة كثيرًا، هبت عليها عاصفة هوجاء واسود النهار وصبت السحب أمطارها بغزارة.

صار القوم في حيرة من أمرهم، فما العمل والماء يكاد يملأ قاع السفينة، وبينما كان ربان السفينة والبحارة يعالجون أثر العاصفة، كان في السفينة شخص التفت حوله جماعة بهرهم بكلامه وأخذ لبهم بطول لسانه، سألوه عن الرأي والمشورة فأجاب غير متلعثم وكأنه ملك البحار أن النجاة بأن يثقب الجماعة قاع السفينة ليأخذ المطر طريقه إلى البحر، فانطلقوا إلى قاع السفينة وأخذوا يطرقون الخشب بالمثاقيب وبقية القوم في غفلة وذهول، لم يصدقوا أن يقدم هؤلاء الحمقى على هذا الفعل الشنيع.

وما هي إلا ساعة وإذا بماء البحر يتسرب إلى السفينة رويدًا رويدًا، فلما تبين الخطر الداهم هب هؤلاء الحمقى إلى معلمهم وملهمهم فصاح بهم: النجاة النجاة، وهو يشير بيده إلى قارب النجاة الوحيد في السفينة.

فاستوى ومن معه في قارب النجاة وهربوا طلبًا للحياة غير آبهين بمصير المئات من الآخرين.

كان في السفينة تجار أخشاب قد جلبوا تجارتهم، فطلب الربان منهم التبرع بأخشابهم وأدواتهم، وأمر النجارين وبقية القوم أن يشحذوا هممهم وأن يصنعوا سفينة نجاة لأن السفينة الكبيرة قد بان عطبها وتأكد غرقها.

وما هي إلا ساعات حتى امتلأ قاع السفينة ماء واختل توازنها، وبجهد النجارين والبقية كمل بناء سفينة النجاة وحان إبحارها.

احتار الجميع من يركب سفينة النجاة طلبًا للحياة ومن يبقى في سفينة الغرق ليحفظ توازنها حتى تأخذ سفينة النجاة طريقها بعيدًا عنها.

انبرى ربان ا لسفينة والبحارة بشجاعة وثبات وأشاروا على البقية بركوب سفينة النجاة وأمروهم بالإبحار بعيدًا عن سفينة الغرق.

وما إن ابتعدت سفينة النجاة بسلام حتى ترنحت السفينة الأم وانكسرت من منتصفها وسقط الربان والبحارة طعمًا لأسماك القرش المفترسة تلتهم أشلاءهم وتصبغ ماء البحر بدمائهم.

أما من ركب في سفينة النجاة، فقد شاهدوا هذا المشهد الشنيع بالصراخ والعويل وهم يصبون الدموع حزنًا وأسى على هؤلاء الشجعان الذين قدموا أرواحهم ودماءهم ليهبوا للبقية حياتهم.

وأمام هول المشهد، كان آخر ما سمعه الأحياء نداء الربان وهو في آخر رمق من حياته، يصرخ بصوت عال: “اذكرونا في هذا اليوم من كل عام”.

أنهى الحكيم قصته ولفظ أنفاسه الأخيرة.


error: المحتوي محمي