مسؤولية الكلمة

صباح جميل من صباحات القطيف تلك الشجرة العتيقة التي تعطي أجود الثمر! أكتب هنا لمن يقرأني بمحاولة أخرى جديدة ومتواضعة لفكرتي هذه التي سأطرحها عليكم وغرضي الوحيد توضيح أقصر الطرق وأضمنها للحصول على إنسانيتك وصدق حسك وصفاء نفسك، وكل هذا بمدى إحساسك بمسؤولية الكلمة والتي أعتبرها “وليتقبل القراء وجهة نظري” من تحديات العصر التي تؤرقنا في إنسانيتنا. من حق أي قارئ أن يرفض رأي هذا فنحن نمارس هنا الديمقراطية الفكرية بحضارة وإنسانية، وإلا فلمَ أطرح مقالاتي الحرة هنا فالصدق وارد ومؤكد.
قد يتساءل البعض ما مناسبة هذا الطرح؟!
بكل صدق إن الذي دفعني للحديث عنه وما يترتب عليه من خير أو شر هو كثرة الاستهتار والاستخفاف بالكلمة من قبل بعض الناس، فلم تعد للكلمة أمانة أو مسؤولية وكم كلمة قالت لصاحبها دعني وشأني.

رن جرس التليفون يوما بإلحاح شديد ورفعت السماعة فجاءني صوت صديقتي مضطربا، أعرفها جيدا وطلبت مني مبلغا من المال وقالت لي سوف أعيده بعد شهر بالضبط، ولكن الشهر صار سنة وعندما طلبت مرة أخرى اعتذرت منها بأدب، حتى لا أخسرها أو أفقد صداقتها فأنا من لا يفرط بأي صديق أو أسبب لها بعض الحرج، فكانت كلمتها رخيصة غير مسؤولة وتأسفت حينها لكل لحظة التقيت فيها مع موقفها غير المسؤول، فأصبت بالدهشة وكأني أعيش في المدينة الفاضلة النزيهة عن كل تجاوزات! أرجو عدم اتهامي بظلمها أو الإساءة لها لعلي ملتزمة جدا بإيفائي بالوعد وموقفها لم يعجبني واستوقفني طويلاً وأثار استيائي ودهشتي!

أنا هنا مسؤولة وحدي عن كل كلمة أكتبها، ولن أستشير أحدا والقرار لي ما دامت الكرة في ملعبي. والكلمة اليوم تلعب دورا مهما في حياتنا فهي سيف ذو حدين إما لك أو عليك. أحرص تمام الحرص أن يكون حديثي صادقا كعادتي، ولا يخرج إلى اللغو لأنه سيخرج من القلب وما أعظم الكلام إذا ترجم إلى عمل واقعي! كسب الثقة ليس سهلا فالمرء ٌيعرف بكلمته، وللأسف صديقتي العزيزة شوهت صورة الصدق وخانت أمانة الكلمة، وأنا أعتذر لها بصدق إن قرأتْ مقالتي هذه، ومتأكدة تماما من مرورها هنا حيث إنها قارئة جيدة، لم أعد أكترث لمن لا يحترم كلمته للآخرين فمسؤولية الكلمة عنوان الرقي والحضارة.

أعود إلى ذي بدء فأقول: إن الإنسان ٌيمتحن من أجل صدقه في كلمته وتحمله تكاليف وجوده الحر، إنه ليحزنني أن أرى الناس قد ابتعدوا عن صدق الكلمة أو يأخذونها باستخفاف أو استغفال، كلما قرأت كلمة تافهة أو سمعت تعليقا منحرفا أو تدبرت توجيها زائفا، شعرت بالألم وما أصدق آلامي وأوجاعي وما أكثرها! ربما ليس هناك من شك في أن من مُنح ملكة الكتابة والتعبير والتحدث قد أوتي خيرا كثيرا، لاسيما وقد خصه الله سبحانه وتعالى بهذه الموهبة الجميلة وميزه عن سائر الناس، وهذا أعتبره مراهنة على تحمل أعباء أمانة الكلمة التي أنا عند طرحها الآن. نحن لسنا بحاجة لكلام فيه رونق وعذوبة ولا حتى تألق، ولكن علينا أن نقف عند الكلمة.

كم نعاني في أيامنا هذه من نقض الوعد وعدم الاكتراث بالوعود! ما أبشع وأقبح ألا نفي بوعودنا وما أكثرها هذه الأيام! و ما أحوجنا إلى احترام الكلمة وعدم الإخلال بذلك! احتراما لأنفسنا وللآخرين وذلك لأن كلماتنا ووعودنا أصبحت بلا قيمة، ما دمت إنسانا صادقا مسؤولا عن كلمتك لماذا تحبسها وتمنع وصولها بالطريقة الصادقة بما تحمل من كرم وسخاء الكلمة دون خوف دون تردد دون زيادة أو نقصان؟
اجعل لسانك طاهرا بعيدا عن أي زيف، حاول أن تحترم الكلمة التي تخرج منك، وتألق بكلمتك الصادقة على أن تكون هويتك ومبدأك وأخلاقك.

نحن في غيبوبة الوعي التي تمنعنا عن الوفاء بصدق الكلمة، ولأن انتمائي إنساني فأنا لا أنتمي لا لليمين ولا لليسار، ولا حتى أنتمي لأي خط أو فكر معين ولا أتعصب لأي منهج، أنا لا أعرف ركوب الأمواج ما أشعر به يظهر على تصرفاتي، ولا يمكن أن أستعير صوتي من أحد، أحاول معانقة هموم مجتمعي وأهلي فمعاناتي لهموم الإنسان واحتياجاته توجهني أن أناقش وأطرح موضوعي هذا بموضوعية تامة، والتي أنظر إليها من الموقع الإنساني التي فرضت على عقيدتي وإنسانيتي أن أقف عندها.

نحن في زمن نستورد فيه الحضارة بما فيها المسؤولية تجاه الكلمة، ولقد مرت علينا عقود من الزمن من الكبت وسلب الحرية الفكرية والحجر على الكلام، وقد أزاله الله ونشكره على هذه النعمة بدلًا من إساءة استخدام هذه الحرية، فهنا يتضاعف علينا استثمار الكلمة الصادقة. فمسؤولية الكلمة عند المسلم في صلاح لسانه، فهو ملزم شرعا بألا يسكت عن كل ما لا يرضاه الدين، ولأن الثرثرة وإطلاق الكلام دون إدراك مخاطرة فإنه هلاك لصاحبه، ولابد أن ندرك كيفية التعامل مع الكلمة ورب كلمة طيبة جمعت شملا ورب كلمة صادقة أدخلت الجنة جعلني الله وإياكم من أهلها.

وقد كان الإسلام على حق حين قدر قيمة الإنسان بمقدار تمسكه بكلمته والعمل على إيصالها بصدق، لأنه لن يكون إنسانا حقيقيا بغير ذلك وعند تفوهك بكلمة الحق، فإنها ترفعك درجات يوم القيامة، فالمرء يستطيع أن يقول ما يشاء أو يكتب ما يريد، صحيح أنها مجرد كلمات تحت وازع الضمير ولكن فعلها عظيم. فمسؤولية الكلمة عند المسلم في صلاح لسانه، وهو مكلف شرعا بألا يسكت عن كل ما لا يرضاه الدين، فلقد أوضح فلاسفة الأخلاق العرب منذ قديم الزمن أهمية الالتزام الدقيق بممارسة الصدق في الكلمة وهي مسؤولية فكرية وأدبية قبل أن تكون شخصية، والكلمة هي تلك الحروف والأصوات التي تنطق بها الألسن وتتحرك بها الشفاه، ويمضي بنا الزمن فإذا خلاصته مسؤولية الكلمة التي تحتاج إلى الصدق والوفاء أولا.

لا نريد أن نتبع في حياتنا مبدأ لا أدري أو نسيت، والإنسان بشر عرضة لأن يسهو ويغفل وينسى وهذا لا يخرج عن كونه مجردا من المسؤولية، فمثلا الوعد مسؤولية فعندما أعدك بشيء لابد أن أفي بوعدي “وعد الحر دين” حتى كلمة نعم ليست سهلة الآن فقد نواجه بكلمات السخرية والاستهزاء والتجريح وهي كلمات شائعة للآسف تداولها بعض الناس، غير ملتفتين إلى أنها التي تكسر القلوب أو تجرح النفوس والخواطر، وقد تسعدك الكلمة وقد تشقيك ولنعتبرها شرفا ومسؤولية وموقفا وعهدا فأنا هنا أنصح نفسي أولا بأن نحرص على أمانة الكلمة ونزاهتها والتي قد تحمل في طياتها عبقا خاصا وسحرا مميزا، حيث إن البعض منا إذا تكلم لا يتكلم إلا بالسوء وباللغو والزور والكذب والنفاق والتملق، يا ساتر يا رب!

ما أحوجنا اليوم إلى كلمات حقيقية غير جبانة وإلى أشخاص حقيقيين غير جبناء يشعرون بمسؤولية الكلمة، ونحن بحاجة إلى إعادة بنائها وبحاجة إلى تأسيس أناس صادقين، كفاية أن نحيا في قلق حقيقي في غياب الكلمة المسؤولة! نحن أمام مهمة شاقة ومسؤولية كبرى لإلقاء هذه المهمة عالية في فضاء حرية الكلمة ومسؤوليتها، نحن نخرس صوت الحق بعدم مسؤوليتنا للكلمة وصدقها بأي شكل كانت وبأي خط كتبت.

ما بالنا نذهب بعيدا في أعماق التاريخ ونحن كنا نشاهد حتى الأمس القريب كيف كان الناس يتعاملون بالثقة والصدق، نحن عندنا أزمة الثقة بالوعود والأقوال الكل لا يثق بالآخر، كل واحد ينطوي في قراره نفسه على الشك لا يصدق ما يقوله الآخرون، ما أجدر بنا أن نتحلى بصدق الكلمة لتستقيم حياتنا، ولتعود إلى نفوسنا ثقة فقدناها وعلى أثرها فقدنا الأمن والسعادة والاستقرار، فالذي لا يصدق بكلمة مرة واحدة سقطت مكانته وقل قدره وقلت الثقة بحديثه عند الآخرين.

نريد سلوكًا حضاريًا جميلا في حياتنا ونحن في عصر ثورة الاتصالات، التي جعلت العالم قرية صغيرة بل نرغب جمالا حقيقيا يقاوم القبح بانعدام مسؤولية الكلمة، ويجب أن نذكر أنفسنا بين الحين والآخر بأمانة الكلمة ومسؤولية الفرد، عما يقوله في أي شأن ومع أي شخص وفي أي مكان!

تساؤلات كثيرة كانت ولا تزال تدور في ذهني، وأنا أرى أصحاب المبادئ والقيم الإنسانية الرائعة أيضا ٌيهزمون في مواقفهم العملية إرضاء للناس أو تجنبا لرد فعل معين! وأؤكد أنه لا يوجد تناقض بين الالتزام الدقيق بالقيم الأخلاقية، وبين المحاولة من أجل حرية التعبير الصادق بالكلمة الصادقة وتحت أي ظرف ومع أي شخص. إنه شعور نبيل وهو الشعور بالاستقلال والتحرر من أسر الطبيعة، شعور بالمقدرة على تفسير بعض المفاهيم والشعور بالكرامة، والإنسان في سائر تصرفاته وأقواله الاختيارية سيد مسؤول، ولا يفوتني أن التصرف الفردي لا يبيح التعميم.

نحن هنا لا نزال نتعلم احترام الكلمة في مدرسة المسؤولية، وليسمح لي القراء الأعزاء بالالتفاف إلى إحساسي في نظريتي المتواضعة، والتي تهتف بحرية وجداني بأن تكون لك فرصة التحدث أمام الغير، فهذا أقل ما تستحقه للتعبير عن نفسك بكلمة مسؤولة وأن تتحدث أمام الجميع، فأعتبرك محظوظا وسعيدا ولكونك صاحب كلمة مسؤولة حرة وصادقة، فهذا دليل تمتعك بقوه شخصيتك فضاعف مسؤوليتك باستثمار كلمتك وكن مسؤولا عنها مادمت موجودا في هذا الكون، عليك أن تتحمل مسؤولية وجودك وأن تكون إنسانا وأن تبني إنسانيتك بالصدق حتى تتحملها لأن مسؤولية الكلمة بناء وحضارة ورقي وجمال وكمال.

أوجه لك دعوة خاصة بالتعاون معا في مسؤولية حمل وإيصال الكلمة لأمانتها وأن ندرك مسؤوليتها وخطورتها بألا نغتال الكلمة الصادقة أو ندفنها فهي نبض المجتمع، وأستطيع أن أؤكد أن مشكلة العالم كله اليوم تبدأ من فقدان الصدق وأرى أيضًا معظم مآسي البشر تكون نتيجة التقدير الخاطئ في تقييم وفهم وتقدير الكلمة.

أود صادقة ألا تصبح كلمة مسؤولية الكلمة، كلمة مستكرهة لكثرة ما استخدمتها وكررتها مراراً هنا، لأننا نرغب في ممارسة حرية الكلمة دون اغتيالها. ما رأيك أن نتفق جميعا ونتعهد ألا نتفوه إلا بالصدق! ونكون مسؤولون عن كلمتنا تكريما وتقديرا لمدينتنا، وحتى لا نسمح للقطيف الأم أن تتلوث أخلاقيا، دعونا نتنفس الصدق في الكلمة ونستوعب مسؤوليتنا تجاهها ونعتبرها هويتنا ورمزنا وشعارنا.


error: المحتوي محمي