المجنون وليلى القطيفية

يقول مجنون ليلى قيس بن الملوح في واحدة من أجمل قصائده “تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِي”:
وَإِنّي إِذا صَلَّيتُ وَجَّهتُ نَحوَها
بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيَ

وهي محاولة منه لأن يقول بصيغة مجازية حيثما تكون ليلى تكون القبلة، ولا تجوز الصلاة إلا نحوها.

تقول التراجم بأن قيسًا كان قد عاش في نجد، وبالتحديد في خلافة مروان بن الحكم. ولكن يبدو أن روحه قد استنسخت في عصر التكنولوجيا، حيث ولد قيس آخر عشق ابنة عمه كما قيس، وفقد عقله كما قيس أيضًا.

حيث بدأت الحكاية في أواخر السبعينيات حينما وقعت عين قيس القطيفي على عين ليلى القطيفية. وأعتقد أن تلك النظرات هي بمثابة عقد زواج مبكر لأُلفةٍ أبدية بينهما.

إلا أن رحى السنون قد طحنت ذلك المعتقد ليتناثر كما الغبار في أرض القطيف. ففي طفولته كان ينهي واجباته المدرسية سريعًا، ثم يترك منزله ويذهب نحو البقالة القريبة ليشتري “روبيان نسمة”، وعصيرًا، وبعض الحلويات، ويتوجه نحو منزل عمه ويتقاسم معها الأكل وهما قبالة التليفزيون يشاهدان معًا مسلسل “ليدي أوسكار” و”توم سوير”. وما إن بدأت مفاتن ليلى تنمو حتى مُنع من الجلوس معها، ولكنه ظل ينتهز الفرص من حين إلى آخر.. لقد كان يكبرها بسنة تقريبًا واحتمالية أن يتقدم لخطبتها شخصٌ آخر واردة جداً.. وهذا ما دفعه لأن يتوجه للعمل بعد الثانوية مباشرة عوضًا عن الدراسة في الجامعة.. وكانت تلك النقطة محور خلاف مع والده الذي كان يحلم بأن يرتاد أحد أولاده الجامعة، والتي كان لها طعم مختلف في ذلك الوقت.. إلا أنه لم يأبه لرأي والده، وعند أول محاولة منه لطرق تجربة العمل كان هناك من يطرق باب ليلى القطيفية.

فقد دخل رجل معمم ومن خلفه ابن أخيه الشاب الذي تجمل بالعقيق والسبحة، وتوشح بغترة تفوح منها رائحة الكمبودي.

ولا أعلم ما الذي غيّر مشاعر ليلى فجأة.. فقد تكون السبحة أو العقيق أو الكمبودي الذي كان يتطاير مع كل حركة يقوم بها ذلك الشاب.. وما هي إلا أيام وحضر الشيخ وخلفه شاهدان، وتم العقد سريعًا من غير علم أحد كما لو كانت معاهدة كامب ديفيد في زمن السادات.. وهنا كان التزامن بين أول راتب تسلمه قيس مع أول خلية عصبية لقيت حتفها في مخه، حيث لم يستوعب الصدمة ففقد توازنه وسقط على الأرض. مبحلقاً في أمه محاولاً بتلك النظرات أن تخبره أن الخبر مجرد مزحة أو كذبة.

ولكن الأمر قد حسم، فقد أعدت ليلى حقيبتها للسفر مع زوجها نحو العراق لدراسة العلوم الدينية، بينما تم فصل قيس من العمل. وفي الوقت الذي كانت ليلى تجلس في صحن الكاظم، كان قيس سجين غرفته. وبينما كانت ليلى تحتسي الشاي المخدر، كان قيس يعض بأسنانه يدَ أمهِ عندما تحاول فتح فمه كي يأخذ الدواء.

لم أعد أشاهد قيسًا في السنوات الأخيرة، وحين سألت أحد أقاربه عنه أخبرني بأنه مازال موجودًا في منزله مع والدته، التي فضلت أن تترك ملذات الحياة وتجلس بجانبه وتعتني به كما لو كان طفلًا.

فهي تطعمه، وتحممه، وتعطيه الدواء، وترقد بجانبه.. وقد يتبادر إلى الأذهان سؤال وهو؛ هل من المعقول أن يكون كل ذلك نتيجة فراق الحبيبة؟!

والإجابة هي أن الناس عبارة عن قدرات وإمكانيات، وتختلف الدرجة من شخص لآخر.. وفقدان الحبيبة بمثابة فقدان الولد لدى البعض، وكم هم الأشخاص الذين فقدوا عقولهم نتيجة فقدانهم أبناءهم.

ويبدو أن الحب (الحقيقي) سلاح ذو حدين؛ إما أن تكون قيس بن الملوح وتموت عارياً في الصحراء، أو تكون كـ(شاه جهان) وتبني قصراً كتاج محل تعبّر فيه عن النصر الكبير.


error: المحتوي محمي