دكان علوي.. قصة كفاح ودفتر أسرار.. وصندوق ذكريات لأهالي البحاري

رغم انتشار المحلات التجارية الكبيرة التي تضم مجموعة من المنتجات المتنوعة والكثيرة، وتلبي رغبات الزبائن من كل مكان ولمختلف الأعمار، إلا أن “بقالة البحاري” أو “دكان علوي” الذي أنشأه – المرحوم – ابن قرية البحاري علوي بن محمد الشريف عام 1380هـ، ما زال محافظًا على مكانته.

فعلى مدى 60 عامًا ظل “دكان علوي” يحظى بإقبال الزبائن الذين ينتظرونه بشكل يومي ليشتروا ما يحتاجونه منه من البضائع.

دفتر الأسرار
وطوال السنوات الماضية كان الدكان يحمل كثيرًا من أسرار البيوت في دفتر الدَّين، الذي يعرّف الأوضاع الاقتصادية للبيوت التي حوله، وتفاصيل حياتهم، ففي لفتة إنسانية من ملاك الدكان لزبائنهم من البحاري كانوا يقومون بمراعاة الحال الاقتصادي والمتدني لبعض الأسر بتخصيص دفتر للسلف أو الدَّين فوق الطاولة ليكون البيع بالآجل، ممتنعين عن وضع لافتة (الدَّين ممنوع)، التي تستقبل الزبائن في كثير من المحال في الوقت الحالي، كما كان الدكان أحيانًا مكانًا يستريح فيه رب الأسرة ليفضفض عما بداخله من هموم الحياة وقسوتها.

وبعد رحيل الأب توارث الدكان أبناؤه الأربعة، وهم؛ علوي ورضي وحمزة وجاسم.

ويؤكد الأخ الأكبر علوي الشريف أنه في السابق لم يكن الدكان يضم الكثير من المواد الغذائية، وكان يقتصر على الاحتياجات اليومية فقط.

البحرين نقطة تحوّل
وأوضح الشريف أن البحرين كانت نقطة تحوّل الدكان الصغير إلى بقالة اشتهر سيطها في البحاري، فقد كان الدكان في السابق مجرد غرفة صغيرة يتم فيها جمع البيض، ثم يتم بيعه في البحرين، مبينًا أنه عندما كان عمره 10 سنوات كان يسافر مع والده عبر سفينة محلية الصنع قياسًا مع الزمن ليبيعا البيض هناك، ثم يشتريان بعض الأغراض مثل البهارات والزيوت لبيعها لأبناء القرية.

وأشار الشريف إلى أن والده استمر على هذه الحال لسنوات طويلة، بعدها قام بفتح الدكان بشكل رسمي، فاستخرج له ترخيصًا من قبل البلدية ليقوم بالنشاط التجاري ببيع المواد الغذائية (جملة ومفرّق)، مقتصرًا على الاحتياجات الأساسية لأسر البحاري، مثل الأرز والسكر والحليب والزيت والبهارات، ثم توسع الدكان شيئًا فشيئًا وأصبح يُعرف ببقالة البحاري لبيع المواد الغذائية، وأصبح يموّل جميع الأسر بالمواد الغذائية إلى الآن، ورغم تواجد المراكز التجارية في محافظة القطيف، إلا أنه لا يزال يقدم أفضل الخدمات إلى أبناء القرية من خلال البيع بالنقد أو بالآجل.

من البداية
وروى الشريف قصته منذ البداية بشكل موجز قائلًا: “ولدت في أسرة فقيرة وحرمت من بناء مستقبلي الدراسي، كما حرمت من اللعب، وأجبرت على العمل الشاق منذ مطلع الفجر حتى الليل، وازدادت بي الحياة قسوة ومرارة، والواقع المتوحش عصرني بقوة كادت أن تفتك بي، إلا أن إيماني بأن الله يريد أن يخرج مني أجمل الأشياء أشعل نار الإرادة في قلبي فخضت معارك الحياة، وانتصرت على قسوة الدنيا، واكتفيت عند ذلك بتحقيق هدفي الأول والمتمثل بإبعاد شبح الجوع عن أسرتي، فكانت الحياة قاسية ونحن صغار في الخامسة والسادسة من العمر، وكانوا يوقظوننا منذ الصباح الباكر ويطلبون منا سقاية النخل وجز العشب للمواشي، حتى إننا كنا نعمل أحيانًا دون أن نأكل فطور الصباح”

وتابع: “إنه صراع من أجل الحياة، ففي السنة الثامنة من عمري أخدني أبي إلى المدرسة ولكني لم أستمر، ومكثت فيها سنة واحدة، بعدها أخذني إلى المعلم، وحفظت القرآن الكريم، وتعلمت الكتابة والقراءة من خلال تعليمي القرآن عند الملا علي بن ربيع، رحمه الله، فشعرت حينها بالسعادة والرضا وعملت في جز عشب المواشي وكنت أقوم ببيعه في الأسواق على ظهر الحمار والقاري، بهدف إبعاد شبح الجوع وتوفير لقمة العيش لأسرتي أبي وأمي وأخواني الثلاثة وأختي الوحيدة، كان أخواني وأختي أطفالًا صغارًا وكان عمري آنذاك 10 سنوات فاستمريت في بيع العشب لفترة من الزمن، حتى إنني كنت في الرجوع أنام فوق القاري، والحمار يسير بي وحده فهو يعرف الطريق، وكان لا يتوقف إلا عند باب المنزل، وبعد افتتاح والدي دكانه قمت بتسجيل فواتير الدين لزبائن المحل ومضيت على هذه الحال لعدة سنوات، من الكدح والمثابرة في العمل، فعندما كنا نبيع في الدكان تكونت لنا علاقات طيبة مع تجار الجملة، وكانت بيننا ثقة عميقة، لأننا كنا ندفع لهم كل أموالهم من دون تأخير دفعة واحدة، وهكذا بُنيت الثقة، ولهذا قام التجار بتزويد دكاننا بجميع الاحتياجات التي نطلبها لأنهم يثقون كل الثقة أنهم سيحصلون على أموالهم، فالثقة مصدر تمويل، والثقة تأتي مع الأمانة والصدق، فأخواني قاموا بتوسيع الدكان حتى وصل إلى ما هو عليه الآن”.

حلاوة زمان
ويؤكد الشريف أن الدكان لا يغلق، وينتظر زبائنه بشكل يومي ليبيع لهم ما يحتاجونه من بضائعه المحدودة، إذ يبيع منتجات يوصي بها زبائنه من كبار السن مثل علك البان، وماء الحيج، وبعض أمواس الحلاقة القديمة، وقال: “رغم ذلك، فالمنتجات لم يعد يشتريها الناس كما كان في السابق، إلا أننا نبقى ثابتين في محلنا المتواضع”.

ويتذكر أحوال الدكان أيام والده في الزمن القديم، حيث يحل عليه الظلام ليلًا لعدم وجود الإنارة فكان والده يغلقه في وقت المغرب، ويعود إلى بيته حاملًا ما تحتاجه والدته من احتياجات بسيطة، كما يحمل دفتر الدَّين، الذي يضم بين سطوره كل ما احتاجته الأسر في قرية البحاري خلال شهر كامل.

ويضيف أن تعاونه مع أشقائه الذين يشاركونه في المحل وفي العمل، قد أعطى للدكان طابعًا أسريًا، وزاد روابط المحبة والتعاون، معتبرا الدكان جزءًا من حياتهم، مما يوجب عليهم أن يبذلوا الغالي والنفيس في كل الأوقات ليبقى هذا الإرث عاليا على مر الأيام والسنين.

ملتقى الأصدقاء
وأجمع عدد من الشباب على أهمية دكان علوي في قريتهم الذين يقطنون فيها، نظرًا لما يوفره من أجواء نفسية واجتماعية جميلة تمتد لسنوات طويلة، وقال الشاب علي جواد العبكري: إنه يلتقي بشكل يومي مع أصدقائه أمام البقالة في ساعات ما بعد العصر وحتى وقت العشاء، يتسامرون معًا، ويتناولون الفطائر الخفيفة والمشروبات الغازية، وتظل أجواء محيط البقالة في غاية المتعة والحميمية بين الأصدقاء والجيران، مؤكدًا أن البقالة إرث اجتماعي متواصل منذ عشرات السنين، ولا يزال لها حضور كبير في كل الأحياء لقرية البحاري، وهي تؤدي دورًا مجتمعيًا مهمًا، مهما بلغت الحياة من رقي وتطور.

خصوصية
بدوره، يضيف الناشط الاجتماعي عدنان باقر الشريف أن البقالة تحمل قيم المجتمع الخاصة، فحين تأتي امرأة لتشتري من البقالة المزدحمة بالشباب مثلًا تقف خارجها في زاوية لا يراها مَنْ بداخل البقالة، ليقوم كل من بداخلها وبطريقة سريعة بإطراق رؤوسهم إلى الأرض ويخرج صاحب البقالة لبيع لها ما تريد وتغادر من دون أن يعرف أي أحد من الجالسين من هي، وهذا احترام وتقدير للمرأة.

دكان الذكريات
وتحكي السيدة زكية هاشم ذكريات طفولتها في هذا الدكان، فتقول: ‘كنا في صغرنا نمشي جميع،ا إلى بقالة علوي دون أن يكون هناك حرج أو شبهة في دخولنا لها، نتجول في ممراتها الضيقة وتعلو وجوهنا فرحة لا يتقاسمها معنا أحد، مأخوذين بقراطيس البطاطس الملونة وأعواد الحلوى الخشبية المصفوفة على طاولة البائع وأكواب الآيس كريم التي تملأ الثلاجة بالإضافة إلى أنواع الشوكولاتات التي يزدان بها دكان علوي، وأذكر عصاته التي تتصدر مقعده والجاهزة للاستخدام في حال أن أحدًا منا أساء الأدب برمي شيء من الأغراض المصفوفة في دكانه، تلك هي الصورة التي لا تزال تسكن ذاكرة زكية هاشم في طفولتها عندما كانت لا تتجاوز 7 أعوام.


error: المحتوي محمي