ذكريات حاجّة

رغبة جامحة تدعوني اليوم للكتابة عن مكة ولمكة والحديث عنها شجن وفي أرجائها تنتشي النفس بعبق يفوح طهرًا وجلالًا. هي الروح والريحان هي جنة الله في الأرض غرس حبها في قلوب أحبابه وسقاها بماء زمزم فارتوت بمائها. رغم أنني هاوية في الكتابة ولست ثابتة ممتهنة ولكني سأكتب ما جال في خاطري وذكرياتي أيام الحج فهو حدث لا ينسى، قد تكون خاطرة سريعة لا تغيب عن فكري.

عندما أعود بالذاكرة إلى الوراء ومن خلال ذكرياتي ألمس أن هناك صورة تتغلغل في النفس، نتذوقها ونعيش لحظاتها الصادقة لست ببعيدة عن حديث الذكريات فهي تثير شجوني وترهف شعوري فهي مشاهد لا أنساها تمتزج المشاعر في المشاعر.

صدقوني القول رغم تحمسي للحج من زمان كنت أقول لنفسي: كيف لم أذهب هناك للديار المقدسة؟ كيف فاتتني الفرصة واكتفيت بوقوف عرفات في بيتي؟ وبعد أن حججت خمس حجات ولله الحمد، كلما جاء موعد الحج أتمنى أن أطير لأقف بعرفات، أبكي عندما أتذكر تلك الدعوات التي دعوتها وأنا أطوف بالبيت الحرام وتحققت والتي دعوتها وأنا في روضة الرسول الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه) وتحققت.

أتوق إلى هذه البقاع الطاهرة زادها الله تشريفا وتعظيما وقوفنا بعرفات والملائكة تحيط بنا وأبواب السماء مفتوحة، قال الله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}. علينا أن نعيش معاني الحج وأخلاقه وحجنا الأبدي الخالد يخرجنا كمسلمين من إحرام المظهر إلى إحرام الجوهر، علينا أن نستحضر الله في قلوبنا بأعمالنا الدنيوية ليكون العمل كله خالصًا لله (سبحانه وتعالى).

هذه رحلة الحج ولكن السؤال ماذا أعددنا للرحلة النهائية؟ وماذا سجلنا في صحائفنا؟ ماذا أعددنا لتلك الحفرة التي سنوضع فيها؟ ربما هذه الأسئلة الجريئة التي سيطرت علي وأخرجتني من طور بشريتي وإنسانيتي العادية، وخاصة عندما توجهت إلى الساحة التي تشمخ فيها الكعبة منذ أزمان بعيدة، ونسيت كل ما درسته عن الحج في كتب الدين.

الحج رحلة تأمل وتدبر لآيات الله وكان بيت الله الحرام يستوقفني كثيرا، وكنت أطيل النظر إلى الكعبة وتأخذني حالة إيمانية رائعة وأنا أقوم بذلك وأشعر أن النظر لها عبادة، رحلة الحج أن ترتدي ثوبًا روحانيًا فبالإحرام لا تعرف التمييز بين الغني والفقير والسيد والعبد، أنا أتفق معك تمامًا أن الكثيرين لم يستعدوا للرحلة حتى بأبسط معاني الاستعداد، وهو معرفة ما هو مطلوب عليهم نحن نطمح لحج مبرور ليس له جزاء إلا الجنة، رحلة الحج صورة مصغرة على ظهر الأرض.

لا أعتقد أن هناك رحلة أقدس وأعظم من الحج ممكن أن توفر للإنسان السعادة، هي رحلة العمر رحلة المغفرة بل رحلة القلب والروح فلابد للتأهيل النفسي، فلقد راودني إحساس غريب شعرت به بشدة، كيف لا وهي حجتي الأولى شعور لا أستطيع أن أصفه وباختصار، أطمح في الفوز بالجنةِ التي عِرضها السموات والأرض.

في الحج تصغر ملذات الدنيا وتتراءى لك الحياة من عدسة الحقيقة الصادقة في سجودك وتسبيحك وتلبيتك، نعم تتجرد روحك من كل شيء، إنها مشاعر كثيرة مختلطة ومتضاربة. بل هي مشاعر إنسانية شتى تنتاب كل من يكتب الله له الحج حيث علا شأن هذه الفريضة بقوة، الحج تجربة خاصة نرى فيها الناس من كل جنس جاءوا لتلبية نداء إله واحد وتحت سماء واحدة وبلباس واحد وفي وقت واحد.

لقد تملكتني عاطفة الشوق للحج تفوق الوصف، نحن هناك في فترة الحج نكون
في عالم ثانٍ ودنيا لا يكون بيني وبين ربي إلا الدموع والمغفرة وقضاء الحاجة.
يا من لا ينساني من رحمته أدرك أنه تمر علينا لحظات يشتد شوقنا لرؤية الله ولقائه، أسأل نفسي أين أنا! وتختلج روحي وتفيض عيناي من شدة الغفلة وقلة الزاد ويكاد قلبي يسقط وينقلع خوفا ألا أتذوق حلاوة الإيمان والجنة ولذة الشوق والنظر إلى الله، وأبكي على نفسي مناجية ربي أن لا تعاملني بما أنا أهله وعاملني بما أنت أهله.

لقد سيطر علي شعوري بتأنيب الضمير والرغبة في التطهير من كل معصية وسيطر علي شعور الندم يحل محل أي شعور آخر، همست لنفسي: أريد حجة أشعر فيها بالتعب تمنيت أن أؤدي الحج على التراب وكنت أيضًا خائفة من أن أخطئ في أداء المناسك، ولم أكن أريد أن أخلع ملابس الإحرام التي تذكرنا بأكفاننا وبيوم الحشر وبطهارتنا وبتساوينا أمام الخالق العظيم، والشيء البارز الواضح الذي أراه تغير بي ألا وهو كظم الغيظ والعفو عن الناس، وأنا عندما أردت حج البيت كنت طامعة في مغفرة الله.

لبيك الله اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، هذا النداء ينطلق من أعماق الحجاج بخشوع فيسرعون الخطى إلى الرحاب الطاهرة، يريدون رحمة الله ويخشون عقابه تلك هي همسات الملبين تصدح من حولنا نحن الحجاج، كنت أعلنت أن الدنيا في يدي لا في قلبي، ولأول مرة أشعر بمعنى ذلك الدعاء؛ لله دركم حجاج بيت الله وما أسعدنا نحن الحجاج ونحن في رحابه وعلى أرضه وتحت سمائه وبجواره وفي ضيافته.

وأنا ألمح بيت الله أمام عيني يكاد قلبي يخرج من بين ضلوعي ولم أتصور؛ أنا أمشي على أرض ورمل وطئته قدم رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه! شعرت أنني أرتجف مع برودة عالية رغم حرارة الجو حينها، وهكذا توجهت إلى مكة متطهرة لأطوف حول الكعبة وكنت كالفراشة العاشقة أحوم حول بيت الله. تأملت في الكعبة فوجدت الله سبحانه وتعالى اختار بيته أن يكون في واد غير ذي زرع هذا البيت الحجر بلا نقش ولا زخرف، يا كعبتنا العظيمة لا أود أن أبتعد عنك فأنت زاهية بتلك الحلة المهيبة وحولك ذلك السوار الذهبي، لم أرتوِ منك بعد ويزداد شوقي لك وصورتك الشامخة ستبقى في ذهني وكياني.

هزتني بعمق زيارتي للكعبة الشريفة التي طالما حلمت بشرف وصولي لها، وعندما لمست الكعبة وعانقتها طبعت مدامعي على ردائها الأسود الشريف وشعرت بحضن أمي وشعرت بالأمان شعورًا لا أنساه فدعوت الله إذا أحياني فسأحج خمس حجات وقد أعطاني الله ما دعوته، فخوفي من الله انتقل من شعور باطن إلى سلوكياتي اليومية مع الناس.

وكلما تمعنت في النظر وأطلت التأمل أستبقي طاقة الحياة تلك الطاقة السماوية تتعمق في داخلي، مع ذلك البيت العظيم تهدأ نفسي ويطمئن قلبي، اللهم ارزقني متعة النظر إلى وجهك الكريم حيث إنني متمتعة بعبودية الشوق لله وبزيارة الكعبة الحبيبة، وأنا أبكي حزنًا لفراق بيت الله وأشعر بوجع قلبي كلما ابتعدت خطوة لا أستطيع وصف مشاعري.

وهنا أسمع نداء وتلبية بداخلي وأقول وقت وداعك هل سأتشرف بزيارتك مرات ومرات؟ أنا لم أعد أرى أحدا من الحجاج ولا أسمع أحدا فقط أنظر لك يا كعبتنا العظيمة، بيني وبينك أرتال من الحجاج وأمواج من كل جهة وأنا أخاف من المدافعة أخشى أن يقذفوني بعيدًا عن زوجي رغم أنه يشجعني على التقدم، ويا إلهي كلما اقتربت من الحجر أزداد شوقا لرسول الله وكأني أراه أمامي وأشعر بِأنفاسه الطاهرة.

وعند تقبيل ذلك الحجر الأسود وتلامس شفاهي صلابته بنعومة، فأمام ذلك الحجر الأسود تسقط كل الألوان الزاهية منها والداكنة، يا إلهي أشم رائحة رسول الله (اللهم صل وسلم عليه) وأنا أقبل ذلك الحجر وأستروح ذكرى الحبيب، أحلم في كل مرة رغم التدافع العظيم من الحجاج بلمسة أو قبلة، وأتحسر إذا أتيت لذاك الحجر دون أن أحظى بتقبيله فهو ياقوتة من الجنة، يا إلهي أتذوق وأشعر الجنة عندما أقترب من هذا الحجر أروم بقبلة مختلطة المشاعر.

وجاء يوم عرفة وما أدراك ما يوم عرفة ذاك اليوم العظيم نسيت كل شؤون الدنيا، وأخذت أتأمل هذا الموقف المهيب ملايين البشر تجمعوا في وقت واحد ومكان واحد، تفيض قلوبهم بالإيمان العميق وقد جاءوا من كل جانب يدعون الله أن يتقبل منهم الحج فيعودوا أطهارا كما ولدتهم أمهاتهم، شعرت حينها أن الرحمة تملأ الكون وتملأ وجوه الحجاج فرحة بعفو الله سبحانه وتعالى، إلى جانب أنني أستشعر أن السماء تمطر عفوا ومغفرة فنطمع بكرم الله ولن يردنا سبحانه وتعالىَ.

تذكرت قول نبينا محمد المصطفى: “الحج عرفة”، وعلى صعيد عرفة أرى أكفًا مرفوعة إلى السماء تلهج بالدعاء، ونحن الحجاج بشر ليس ككل البشر تركنا كل الملذات لتلبية نداء السماء، يا إلهي وقوفنا بعرفات والملائكة تحيط بنا وأبواب السماء مفتوحة تسمع وتلبي دعواتنا، تلك الوقفة التي تعد ميلادًا حقيقيًا ساعات الصدق حتى نسيم الجو المعطر بعرفة يغسل النفوس والقلوب، تلك اللحظات تنتشي مكانا يستعصي على النسيان في ذاكرة من يعيشها، وفي الحج عرفت أن عرفات ليس جبلا بالمعنى الدقيق، يوم عرفة يوم لا إله إلا الله، يوم عيد وعظيم للمسلمين، وما أشبه هذا المنظر بيوم الحشر إذا الخلق كلهم جميعا حفاة عراة يرجون رحمة الله وعفوه، إنه شعيرة عظيمة تتكرر كل عام إنها عبادة مقدسة ها أنت يا نفس تتأهبين لرحلة العمر.

في يوم عرفة كان الفرح يملأني ونحن نفترش الأرض في الشمس اللاهبة، ومن يشهد ذاك اليوم الذي يشبه يوم الحشر حيث يأتي الناس من كل فج عميق من كل لون ولسان، أنا لم أكن أريد أن أخلع ملابس الإحرام فالكل أمام الله برداء أبيض طاهر دون تفاخر دون تمييز دون ترف، كان شعوري بأن الله يباهي بنا الملائكة في ذاك اليوم يملأني بالقرب من الله وبترحيب الله بنا فنحن ضيوفه، وبقينا في عرفة حتى غروب الشمس حيث القلوب الخاشعة والأكف الضارعة، وهي لحظة أخرى لا تنسى حيث النفرة من عرفة إلى مزدلفة لنصل لمنى.

بدرت مني التفاتة سريعة وإذا بمنظر أثار شجوني ولاحت من بعيد أطراف منى تلك الأرض التي تحولت إلى بساط أبيض كأن حمامة بيضاء عظيمة حطت على أرض منى وكان مخيمنا بجوار مسجد الخيف، وهنا يبدأ القلب بالخفقان رهبة وخشوعا للخالق العظيم، يا لسعادتي فلقد صليت خلف المقام ولمست وقبلت حجرا من أحجار الجنة وكأني أتخيل نفسي سأحظى بها يوما.

يا الله كم هي الأنفس تعانق السماء طيبا في رحلة السعادة رحلة الحج الكل يطوف بيت الله الكل يسعى ويحلق أو يقصر الكل يرمي الجمرات دون استثناء، وأثناء رمي الجمرات تستحضرني صورة إبليس اللعين الذي يستحق اللعن والرجم، وعند رمي الجمرات المتساقطة على الشيطان من كل صوب ومع كل حصاة تنفجر صيحات الغضب تجاه الشيطان الرجيم.

من أطيب ماء في الدنيا شربت حتى ارتويت هذا الماء العذب الذي خرج من تحت أقدام نبي الله إسماعيل، والذي أصبح نبعه من أعاجيب الزمان يا سبحان الله نحن أثناء الحج وفي كل مكان نصل إليه نرتوي من ماء زمزم.

حتى أكملت رحلتي إلى مكة وعانقت عيناي جدار الكعبة دعوت ودعوت ولم أشأ التوقف عن الدعاء أوليس الدعاء عبادة الله؟! وعودتنا من رحلة الحج لها مذاق متميز بعد أن ودعنا مشاعر الحج بطيبها وروحانيتها فالحج خط فاصل بين حياتين، بعد إنهاء المناسك أثار شجوني السعي بين الصفاء والمروة استحضرتني صورة سيدنا وأبونا إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر، وكم كانت المسافة هي شاقة وكم كانت تلك السيدة الطاهرة عظيمة.

الكل مشتاق لما بعد الرحيل أما يوم العيد فله مذاق آخر. بعد انتهاء الحج توجهنا لزيارة حبيب الله محمد (صلوات الله وسلامه عليه) رأيت ذلك المسجد الشريف يتلألأ من بعيد كالقمر في السماء. أتذكر عند وصولنا مدينة الحبيب الغالي رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) كان الوقت متأخرا في الليل، ومما لا شك فيه كانت أبواب المسجد مغلقة ولكن قبل أذان الفجر ذهبت مسرعة بشوق وحنين لزيارة حبيب الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واكتحلت عيناي برؤية حبيب الله لا أدري أأبكي أم أفرح؟!

تشدني قوة وجمال صوت المؤذن قائلًا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، يكاد قلبي يخفق كلما سمعت الأذان وأنا في مدينة الرسول الشريف،
وفي روضة الحبيب لاحظت هناك النساء الزائرات يتزاحمن بشكل ملفت، رغبة منهن للوصول للروضة الشريفة للسلام على حبيب القلوب رسول الله، وأنا هنا أسلم عليك يا سيدي ويا شفيعي، لقد صلينا ركعتين فيهما انهمرت دموعي كما لم تنهمر قبلا بدفء لم أعهده، لست أدري سببا لبكائي ولكني أعلم أنه كان يغسلني ويطهرني حتى إنني حين أنهيت صلاتي كنت بمنتهى الراحة، ففي مسجد رسولنا وحبيبنا أشعر شعورا بأني أطير سعادة.

تجربتي تلك ما زالت تسكنني وتغذي إحساسي حيث أشعر بحاجتي لقول: “أستغفر الله”، فأعتبرها تجربة ثرية غيرت مبادئي قبل إحساسي بها! لم يشد انتباهي وتأثري أكثر من المسلمين الأجانب القادمين من بلدان بعيدة، وكيف قطعوا كل تلك المسافات وكيف أن الإسلام انتشر هنا وهناك والحمد لله. وليت من يقرأ مقالي هذا يدعو لي بقبول حجاتي الخمس وأكيد أطمع في الأكثر، أسأل الله أن يطعم الحج لمن لم يحج بعد.

أدرك جيدًا كم أجحفت في حق هذا المقال، إلا أن السبب وراء ذلك هو أنني أعترف بأنني لدي عيب شرعي وهو شفافيتي الرقيقة وإحساسي المرهف، وهكذا ضعفت أمام هذه التجربة المثيرة فخانتني الكلمات والأفكار، وأنوه إلى أنه لا يعيب الكاتب أن يضع تجاربه الشخصية كمادة أدبية لقرّائه على أن تكون صادقة، ولقد كتبت مقالا عن الحج بالإنجليزي كمادة تدريس لطالباتي وكان الموضوع رائعًا في طرحه وفكرته عشنا من خلاله أجواء الحج، والعفو من القراء لا أقصد هنا الدعاية والإعلان تحسبا لأي تعليق وارد وما أكثرهم، ولكن ما قصدته أنه يمكن أن تصاغ المشاعر بكل لغة ولسان ما دامت صادقة.


error: المحتوي محمي