قمر على حمَّام تاروت 7-5

مررت صباح يوم رطب من أمام “قهوة مغدين” التي هي الأخرى شهدت ازدحام الناس قبل أسبوعين لمشاهدة الصعود للقمر عبر التلفاز، وقفت للحظات أستمع لصوت المطرب حسين جاسم ينبعث من داخل المقهى “يا ناعم العود يا سيد الملاح.. يا ناعس الطرف ارحم حالتي ليت للغرام حاكم والله لاشتكي.. ويا قمر عاش ويا نور الصباح، أنظرك تكفيك مني نظرتي”، التقطت الكلمات الأخيرة ورحت أرددها “ويا قمر عاش ويا نور الصباح”.

فهمي البسيط ظن بقمر السماء ننظر إليه، وكأنه يبادلنا بضوئه، مثل براءتي نحو هذا المشهد.

ذات ليلة من ليالي الناصفة أمشي بصحبة قريب لي يقول “شوف القمر فوق”، وبعفويتي رفعت رأسي للسماء أفتش عن قمر ليلة النصف، قلت له: “مانا شايف قمر”، قال: “أنت ما تشوفه، أنا أشوفه واضح، لكنه يروح ويجي”، أرد عليه: “ما في شيء، بس أشوف نجوم والدنيا ضو”.

وتعمد أن يجوب الدرب مرتين أو ثلاثًا، وهو يقول: “محلاك يا قمر، طل علينا بنورك”، فتحت “دريشة المحجر” التي تشبه المشربية، برق قمره بابتسامة خجلى للحظات وبقيت يد تلوح من النافذة.

عصرية من عصريات الصيف، وقفت مع مجموعة أولاد نشتري “الباقلا” من عند أبو باقي التركي، على مقربة من باب مسجد العين، يغرف لنا من “صفريته” الكبيرة الموضوعة على طاولة خشبية، وبجانبه سطل ماء مليء بـ”الطاسات والخواشيگ” وهو ينادي “يا ولد قرب قرب من هالزين واشبع بطنك”، اشتريت منه “باديتين” وتقاسمتها مع “حميدوه ومجيدوه”، ظرفاء الحارة، الثنائي المرح وهما أبناء خالة، يبددان فقرهما بخفة دمهما، قالا لي: “الحين بنمفل زي رجال الفضاء اللي نزلوا على القمر تعال ويانا شوفنا ويش بنسوي”، ذهبت معهما عند جسر الحمام ولم ينزعا ثيابهما، تحركا بحركات بطيئة، يحاولان تقليد النزول من المركبة الفضائية، تقدم مجيدوه متصورًا نفسه آرمسترونغ، تحرك وتطرف عند حافة جذوع الجسر وإذا به يهوي كتمثال في الماء، وتبعه حميدوه بتقليد أفضل لقفزة رجل الفضاء، نطتان متتاليتان تطاير معهما “طشار” ماء بعيدًا، وأصابت رجلًا جالسًا يتبول، بللت ملابسه وغترته، فز قائمًا، يرعد ويزبد، وقف ينتظرهما، وبعد ثوانٍ رفعا رأسيهما من الماء، وصب عليهما اللعنات “لا بارك الله فيكم سبحتونا يا قليلين الحياء”، وحذفهم بإحدى فردتي نعاله.

هربا طمسا باتجاه المنطقة المخصصة لسباحة الحمير، لحقتهما جريًا، وقد قاما سريعًا من الحمام، ألفيتهما خلف المسجد يتقاطر منهما الضحك والماء، ينظران يمينًا وشمالًا، وبعد أن اطمأنا من وضعهما بأن لا أحد يلاحقهما، استندا على جذع نخلة وهما يعصران ذيل ملابسهما وينفضان أكمامهما بهز الأيدي، التقطا من الأرض رطيبات ناضجة نقرتها البلابل والعصافير.

وحكيا لي مشهدًا قصيرًا استنبطاه من وحي خيالهما، وتناوبا في السرد والوصف والتوضيح “تصدق يا عظيموه بأن لمريكان بعد ما صعدوا للقمر، ورجعوا للأرض فرحانين، عودوا شغلوا مركبتهم الفضائية مرة ثانية وطاروا للسماء بيروحوا وينه إلى الشمس يبغوا يستكشفوها زي القمر، يوم قربوا منها ماعو، وطبو في البحر”، أي انصهروا من شدة الحرارة.

ومع حرارة الصيف اللاهب، يقف صاحب التاكسي محمد علي فريد مستندًا على طرف سيارته وفي يده “بيبسي كولا” يتجاذب أطراف الحديث مع عبد الله علي حسين، وأخيه عباس حول الحدث شاغل الناس، الأخوان يشرحان له ما شاهداه في تليفزيون أرامكو من الصعود للفضاء وهبوط أول إنسان على سطحه، قال لهما “إذا ركبوا صحيح للقمر هذا قوطي طاري يصبغوه لينا حتى نصدق”! ضحك الاثنان وحاولا توضيح الأمر له بشيء ملموس “زمان أول إذا راحت الناس إلى القطيف طالعين من جزيرة تاروت، يوصلوا مشيًا على أرجلهم أو يركبوا “گاري” إلى غاية “المقطع”، بعدها يركبوا داخل “عبرة” تنقلهم إلى قريبات سور القلعة، وكم يتبهدلوا بهدلة گيض وشتا، وچم من الوقت يأخذوا في الروحة والجية، لكن الحين بسيارتك المبروكة، يوصلوا بأسرع وأريح، ولو سمعوا ناس عاشوا قبل مية سنة عن كبسولة حديد كبيرة تطير في السماء توصل الناس للحج في ظرف ساعتين، هل يصدقوا وهم ياخذو على ظهور الجمال أسابيع وشهور؟”، جاوبهم بدندنة رأس “كلامكم صحيح، وهذا عيان بيان، أدري العلم تقدم والحياة تطورت لكن روحة القمر ما هي داشة في مخي أبدا أبدا”، وأردف يقول: “إذا ركبوا للقمر چيفه بعده يختسف، خليهم يعدلوه لينا حتى لا يختسف”!

ثبات العقل أو ارتقاؤه يشبه رؤية شخصين للأشياء، الأول جالس في حفرة والثاني واقف فوق قمة جبل.

إيه يا قمر السماء نظرتك كل العيون وخاطبتك القلوب، وهام في وصفك الشعراء وتغزل فيك الأدباء والمحبون، ورسمك الفنانون ألقًا وسحرًا، وعلى هدي ضوئك وعند منتصف كل شهر سارت قوافل للأسفار والترحال في السنين الغابرة، لكن المسافرين صرفوا النظر عن ضوئك بعد حين من الدهر.

هل أنت مجرد حساب لشهور المسلمين، وانعكاس للشمس وزينة للناظرين، أم بك من الأسرار، أكبر من فهمنا وإدراكنا، أي كشف للإنسانية حين غزوك قبل خمسين عامًا.


error: المحتوي محمي