قمر على حمّام تاروت 7-3

في اليوم التالي كثر الحديث عن الصعود للقمر وشغل تفكير الناس، وارتفعت وتيرات النقاش واحتدمت وتأزمت بين مؤيد ومعارض، وشهدت الدروب (والسوابيط) انفلاتًا في الكلام، ودارت رحى النقاش بلا روح رياضية، عند شباب الأندية (النسر والنصر والمنار) وكانت الغلبة للحزبيين، وفي المقاهي (إعيا) لا يهدأ، من شدته هز استكانات الشاي وتدفقت على ثياب المنفعلين، وفي رحاب المساجد كثر الاستغفار، وتوجه حجي (……) أمام المحراب رافعًا يده، ويقول “ربنا لا تؤخذنا بما فعل السفهاء منا”، وفي المجالس لا حديث يعلو فوق حكاية القمر بتشبيرات وتكبيرات، وعند الخبازين التهب الجدال حرارة من تنور، وفي السوق وبالقرب من تجمع القواري والحمارة محاججات مستعرة يوقفها برهة نهيق حمار، وعلى امتداد الحمّام كثرة الآراء وتأرجحت تناقضًا بين برودة الماء وحرارة الجو.

حدث أوجد خضة في مفاهيم الكبار والصغار، أولاد ورجال، نساء وبنات، في كل بيت حكاية عنوانها القمر، بعض الحاجيات أكثرن من تلاوة الآيات، وقلن لبعضهن “شوفوا لينا هالأمر مو مذكور في خطبة البيان؟”، وبات الأهالي ينظرون للقمر برؤية مختلفة عما في السابق، وراح البعض يتأمل القمر ويناجيه بالزهيريات والأهازيج الشعبية والأغاني والأشعار.

صبية توزعنا بين مسجد الصياح ونخل الصدري، وشهد تناثر كلام البراءة بيننا، بخليط من الأعمار والعوائل، أولاد الصغير والصادق وأولاد دعبل والطريفي والزاير وآل عبد المحسن والمختار، وبعض المعارف والأقارب والجيران، كل يستعرض كيف شاهد الحدث، بتعقيبات تأخذنا تناغما وأخرى تباينا بصياح دون هدوء نفس “راحوا… ماراحوا.. صعدوا.. ما صعدوا..”، وأخذنا وصفا محمد الصغير بين زمنين، أسمعنا ما شاهده ونحن صغار، واسترجع الذكرى كتابة بعد مرور 50 عامًا، “حياك الله يا أبا محمد ليس لدي ذلك الكم من الذكريات عن هذه المناسبة سوى أنني شاهدت عملية إطلاق المركبة أبوللو ١١ من محطة تليفزيون أرامكو، و قتها كنت في الصف الثالث الابتدائي، وكان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية نيكسون، شاهدته وهو قابض بيده على الهاتف وهو يتخاطب مع رواد الفضاء الذين هبطوا بمركبتهم على سطح القمر، المشهد كان مجتزءاً، سلط الضوء على لحظة إطلاق الصاروخ من منصة إطلاق الصواريخ، وبعدها تتبع مساره وهو ينطلق في الفضاء، ثم ينتقل للمرحلة الأخيرة، وقت هبوط المركبة ونزول أحد الرواد وهو يرفع العلم الأمريكي، والذي لفت انتباهي وقتها، حركته البطيئة، وعندما سألت أخي أبو مدين لماذا هو يمشي كأنه يسبح في ماء؟ رد علي أخي وقال: هذا بسبب انعدام الجاذبية، وهذه المفردة كانت جديدة بالنسبة لي، لم أسمع بها من قبل.

في اليوم الثاني من هذا الحدث، كان حديث الساعة عند الناس على جميع المستويات العمرية وبالذات الوسط الشبابي، منهم المصدق بهذا الإنجاز الأمريكي ومنهم المنكر له، من بين المنكرين، وهم مثلما قلت لك سابقا، المرحوم أبو حسين، والمرحوم أستاذ البناء أبو علي، والمرحوم حجّي، وآخرون معهم لا مجال لذكرهم الآن، كم جمعتنا معاك أطياف من الذكرى يا صديق الطفولة ويا رفيق الصبا، شكراً لك يا أبا حسن.

يمر صحبنا الجميل بين “زرانيق الديرة وساباطها” ونخرج نزولًا من دروبها الضيقة ونعبر حدود آثار (دروازتها) الكبيرة، ويحط رحلنا عند مبنى حمّام باشا، نستظل بجداره الشمالي، ونقف على مرتفع أشبه بتلة منحدرة نحو السوق، مليئة “بالعناصيص” بمثابة سقف للنفق المائي القادم من عين العودة والمار بحمّام باشا والمؤدي للحمّام بقسم المفتوح والأطول.

أصواتنا ترتفع بجوار بسطة “جح وشمام” يتوسطها بائع شاب يدعى “محمد المرزوق”، شرح لنا مجريات الصعود للقمر، وبينما هو مسترسل في الكلام مر من أمامنا “أبو حسين”، الرجل الوقور الطاعن في السن وهو ذو هيبة ووجه مميز، قال له: “استغفر ربك يا ولد أبو عبد وأنت صدقت بأنهم ركبوا للقمر، وينهم وين القمر، القمر فوق في السموات العلا عند الله، لا إله إلا الله، ما حد يقدر يوصل إله، هذه كلها خرافات يلعبوا عليكم”، رد عليه المرزوق وهو يرمش بعينيه: “ترى صدق يا يبا ركبوا ثلاثة أشخاص ومشى واحد منهم على القمر وأخذ حجارة معاه وجابها للأرض”، رد عليه أبو حسين: “أقول لك يا ولدي اسكت عن هالكلام لا تخسف بنا اسكت هداك الله”.

أوصلت هذا الموقف لصديقي محمد العسكري، فأجاب ضاحكًا: “الحاج أبو حسين.. كما تعرف خال الوالد، وشيء طبيعي ما يصدق وبينفعل، مرة وهو في منزلنا، وبينما نذاكر دروسنا مع الإخوان سمعنا نقول بأن الكرة الأرضية تدور مرتين مرة…، قاطعنا وعيناه الجاحظتان تنظرنا شزرا، خاطبنا بقلبه الحنون، الله يحفظكم يا أولاد والله يصلحكم، كيف الأرض تدور وأنا طول لسنين أدخل وأطلع من باب بيتنا، ما أشوف تغيرت جهته، هداكو الباب مواجه الشرق، ما شفته يوم من الأيام صار من صوب الغرب”.

ثورة علمية مزلزلة أتتنا من الغرب ونحن نيام، ورجال بيننا وبعضهم جيراننا حرموا أولادهم من دخول المدرسة، هل خوفًا من العلم والتعلم، ما أقسى أن تسمع وصفهم “المدرسة مفسدة”! وتفزعك كلماتهم توبيخًا “اللي يصدق بأن الأنجاس النصارى ركبوا للقمر فهو كافر مثلهم”.

مفردة الاتهام بـ”الكفر” سارية المفعول إلى اليوم وتلقى جزافًا لكل صاحب فكر حر، وتحرير العقل من الوهم والعصبية ليس سهلًا.

أيها القمر المنير، أنر عقولنا بالعلم.

ويا ماء اغسلنا من أدران الجهل.


error: المحتوي محمي