قمر على حمام تاروت 7-2

يغمرنا حمام تاروت بهجة وسعادة، ويغوينا ماؤه سحرًا وأنسًا، ساعة عصر اشتد بنا حماسها سباقًا من هو الأسرع سباحة وطمسًا، نتجلى بأحلى لحظات العمر لعبًا ولهوًا وانغماسًا. فجأة قطع أجواء متعتنا صوت ابن عمي عبدالكريم، واقفًا على جسر الحمام ينادينا: “قوموا قوموا بسكم من الماي، يالله يالله كل واحد يجهز له أربعة قروش حتى تقدروا تدخلوا قهوة حسن بن الشيخ لمشاهدة التليفزيون”.

ردينا عليه: “ويش فيه، فيلم جديد لفريد شوقي أو فيلم كابوي، وليش أربعة قروش المشاهدة بقرشين يا حبيبي …”.

قال لنا: “لا مو هذا ولا هذا، حاجة غريبة بيعرضها تليفزيون أرامكو، بيجيب چيفة لمريكان بيروحوا للقمر..؟!” طمس بعضنا في الماء من هول ما سمعوا، وخرجوا فاتحين أعينهم بدهشة.

رددنا عليه بعد ثوان صمت: “أووووه… وشوووه… ويش تقول… روح روح يا مخرف، بلا هرابيد، ما نصدق كلامك بلا شلاخ..”، “قول مرة فانية، عيد الكلام يا كرمرم”، “يا صمخان آذاينكم انطمت من الماي، أقول ليكم قوموا بسرعة، ناس بتصعد للقمر بيجيبوهم بعد اشوي في التليفزيون”.

رد عليه حسن علي دعبل: “چيفة بيركبوا للقمر بطيارة ما بتوصل بيخلص بانزينها.. القمر ابعيد ابعيد ولا حد يقدر يوصل له”.. “خلينا نلعب روح لا تشغلنا، بس تبغانا نقوم من الحمام وتخرب علينا لعبنا”.

رد عليه تيسير العماني: “أقول لك روح عنا خليهم يودوك وياهم للقمر”، جاوبنا متذمرا وهو ماشي: “خلاص مانتوا قايمين خلكم منقعين في الماي يا حراسين الحمام، خسارة منچيسكم، جزاتي أقول ليكم، أنا رايح عنكم” جاء حسين قيس وتبعه جاسم جمعان، وخلفهم عبدالغفور المرزوق يسفق براحتيه: “القمر القمر، اللي عنده أربعة قروش بيشوف القمر” وجاء آخرون عند مشارف الحمام يتناقشون عن موضوع الصعود للقمر، هدرة وثرثرة وكلام، تداخل أصوات، وعبارات تهكم تنبعث من السوق من البائعين والمشترين والحمارة والعابرين، كل يتحدث عن الرحلة للقمر، ألسنة لا تكف عن طرح الأسئلة: “رايحين للقمر”، ومتى سيذهبون، وكيف سيصلون، إنها لحظة زمنية فارقة في حياة مجتمع بسيط، كل يلهج باسم القمر، كأنها لحظة خسوف لا بل أكثر، إنها صدمة في التفكير، “هذا يوم عجب إذا صار، هذا يوم العجاب إذا راحو إلك يا قمر” قالها أبو عبدالنبي الخياط وهو يحمم حماره ويوجه الكلام إليه “حا.. حقيقة ويش قولك يا حماري”، قمنا مبللين بالدهشة والغرابة، لبسنا ثيابنا على أجسامنا الرطبة ونحن في ذهول يسبقنا خيالنا والفضول، الوقت متأرجح بين دقائق الساعة الرابعة إلى الخامسة عصرًا، وتكاد السوق تخلو من المارة، وكل المقاهي مزدحمة بالرواد، وغرفة تليفزيون نادي المنار غاصة بالناس، لا يوجد مكان للدخول، دهشة ولهاث، تتزاحم الحشود عند تليفزيونات المقاهي، دلفت إلى مقهى حسن بن الشيخ (أبوعلي)، وإذا بأبواب المحل وعددها أربعة كلها مغلقة من الداخل، أدخلني خلسة ابن صاحب المقهى عمر صديق المدرسة، المكان مزدحم عن بكرة جده وأبيه، صمت مطبق، أنفاس تسمع ودخان يتطاير، عيون متسمرة باتجاه واحد مثبتة نحو الشاشة الفضية، رأيت لحطتئذ صاروخًا يشق عنان السماء، بعدها انفصل جزء من الصاروخ وهوى، وبقي الجزء الآخر يواصل الصعود، فجأة هبطت مركبة فضائية على سطح القمر، والتعليق بالإنجليزي، مدبلج بالعربي، لحظات نزل منها رجل كأنه مهرج بلباس أبيض يتحرك بطيئًا، ركز علما على سطح القمر، ثم تحرك خفيفًا وعاد ثانية للمركبة، تسفيق حار للمتجمهرين في المقهى وصفير يصم الآذان، من جراء دهشة المشهد وتسفيق العاملين في وكالة الفضاء، منظر ساحر بين الحلم والعلم والخيال، انقطع البث ولكن حوارات الناس لشهور لم تنقطع في كل مكان بين مصدق ومكذب؛ أصحيح صعد الإنسان للقمر!؟


error: المحتوي محمي