أطل مساء جميل، في مثل هذا اليوم 20 يوليو سنة 1969م، الوقت الثالثة عصرًا، لعب يغمرنا فرحًا، صبية وأطفالًا، رفاقًا وأصحابًا، نتسابق قفزًا في جوف حمّام تاروت، واحد يرمي جسمه (رواسي) والثاني ينط (قلة)، وآخر يطب (عمودي)، واثنان يجران شخصًا (متين) من يديه ويلقونه عنوة في حضن الماء، قهقهات وصراخ وبراءة طفولة، حجل ورقص وخبطات كف بكف وخطوات أرجل ورنين أصوات تسمع أصداؤها نواحي السوق، نهدأ قليلا حينما يجلس رجل يميل بظهره نحونا ليتبول عند زاوية مسجد الحمّام بمسافة شبر عن الماء.
يأخذنا اللعب بأحلى دنيا، قفز، ضحك، غطس، (طفار ماء) يتناثر يمنة وشمالًا، يترطب الدرب الضيق بـ(نقعات وزلق) من دكان (الخضّار هلال ثنيان مرورًا بصندقة عمي عبد، وصولًا إلى قهوة حجيرات)، (طشار ماء) يبلل ثياب العابرين، هذا ينهرنا وذاك يلعننا، قفز متتابع بشقاوة تعشق الماء، يرتج سطح الحمّام كموج نهر متلاطم، تبتل بسطات الجح والبطيخ والرطب وفواكه الصيف المعروضة على امتداد ضفة الحمّام شرقًا، أصحابها يتوعدوننا بفحش الكلام، نهرب من الألفاظ النابية ونختبئ تحت الجسر للحظات، وعلى ناصية عتبات أدراج الحمّام يغسل (حمّود الشيخ) سجادة كبيرة يفركها بـ(الخشف) والصابون، جهد مضنٍ مقابل مال زهيد يعطى له من أصحاب البيوت المقتدرة، باب مسجد الحمّام مشرع ليل نهار، مفتوح للعبادة ومأوى للمتعبين من رواد السوق.
ينهال علينا صراخ أبوالحمزة السني عنفًا جراء اشتداد نطة قوية أصابت بضاعته بللًا، (اقعد أنت وياه.. لا بارك الله فيكم من اصبيان). وكل من أضناه التعب من حمالية السوق ارتمى بجسمه في الماء، يدعك ظهره بنفسه قيامًا وقعودًا بملامسة نتوءات الصخور المصفوفة على جرف الحمّام. حينما يدخل وقت الصلاة يتوضأ المؤمنون من الماء الجاري القادم إلينا من عين العودة المخصصة للنسوة، نبع أسطوري روى الجزيرة كلها لسنين خلت، ملتصق بالبرج الشمالي لقلعة تاروت، ويشكل مسجدا “العين” و”الحمّام” علامات للمكان؛ الأول عند مدخل الديرة والثاني يقع بنهاية الحمّام بين النخل والماء، ويخترق جزؤه الشمالي نفق مائي ضيق يروي البساتين المجاورة له غربًا، ولمساجد القطيف القديمة جيران عين أو جدول ماء.
مرح الطفولة مغامرة لا تنتهي في حضرة الحمّام، بعد أن نكتفي من القفز والنط نتسابق في لعبة (لمطامس) من هو صاحب النفس الطويل الذي يبقى تحت الماء، وحساب الزمن بيننا بعد الأرقام من واحد إلى …، والفائز من يحصل على أعلى رقم فينا، لكن الدقة مجافية لبعضنا البعض بين بطء العد وسرعته، حينها يأخذنا اللعب سباقًا بتذريع الحمّام سباحة من الجنوب إلى الشمال، نقطع المسافة من وسط حمّام باشا وهو الجزء المسقوف، عابرين الجزء الطويل المغطى والمفتوح إلى حدود (حمّام الحماير) وهو الحد الفاصل وعلامته (البيب) المستعرض في الماء والمثبت داخل جدار مسجد الحمّام في زاويته الجنوبية الشرقية من جهة وبين الجرف الصخري للحمّام من جهة ثانية، وذلك منعًا لدخول الحمير للمستحمين.
سباقات متواصلة بيننا ومجادلات تأخذنا مرحًا وفرحًا بأجمل المسرات، وكلما هبت سموم الصيف، التجأنا لحضن حمّام تاروت نغسل أجسامنا الغضة بمائه العذب، البارد صيفًا والدافئ شتاء، والجاذب للبحارة وأهل الغوص لدعك أجسادهم المنهكة، مكان جذب للعيون والنفوس، مرتع للأهالي والوافدين، فضاؤه انتعاش للروح وراحة للأبدان، والماء سر الحياة.