ورد عن الإمام الصادق (ع): “العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس” (تحف العقول ص ٢٥٩).
كيف يمكن لنا اتقاء مخاطر اللوابس، أي الشبهات العقائدية والمعرفية والسلوكية، ونتجنب الحيرة في تفسير الأحداث والأفكار والمفاهيم المختلفة؟
العلم ليس بتراكم معرفي ومخزون علمي نظري لا يتفاعل مع الواقع المعاش وما يرتبط به من قضايا في الزمن الماضي وتبقى تأثيراتها، بل هو تطبيق ذاك الزاد على أرض الواقع والمستقبل للاستفادة منه في تقديم الصورة الواضحة للموقف والأحداث والمفاهيم، فنتخذ من القرارات والرؤى ما يستند إلى خلفية كبيرة من المعارف، هذا بالنسبة لكل إنسان يمتلك بصيرة واعية يوظفها لاتخاذ المواقف الثابتة، فكيف بالعالم الذي تناط به مسئولية توجيه الناس وإصلاح شئونهم، فانظر إلى كلمات محمد (ص) والأئمة (ع) والتي تتناول أحوال الناس في الماضي والواقع والمستقبل، وما ذاك إلا لتتكامل الصورة المعرفية في أذهاننا فلا تغفل الاستفادة للاعتبار.
الارتباط المعرفي بالزمان هو الانفتاح على أحداثه وشخوصه والعلاقات المتنوعة فيه، وذلك لاستخلاص العبر واستلهام الدروس منه لتكون ومضًا منيرًا في دروبنا في الحياة، فمواقف الناس إن لم نلحظها بعين البصيرة والتمعن فإننا نهدر فرصًا ثمينة لا تعوض، تقينا تكرار الأخطاء والسقوط في الحفر التي وقع فيها من قبلنا، ولذا نجد كمًّا كثيرًا من قصص الماضين في القرآن الكريم ذكرت لا لمجرد الإخبار وكشف الغطاء عن حقب زمنية رحل أهلها، بل هي لأخذ العبر وعدم الوقوع في فخاخ شهوة السلطة والمال والغرور والعدوان، فصياغة الشخصية المتكاملة القوية لابد أن تلقي إطلالة معرفية على أحوال الماضين.
وبالطبع فإنه كما للماضين سيئات وأخطاء، علينا تجنب الأسباب المؤدية لها، كذلك لهم إيجابيات وصفات حميدة لا ينبغي إغفالها وتجاهلها، فمثلا كان رسول الله (ص) يشيد بكرم رجل من أهل الجاهلية لم يسلم حتى مات، ألا وهو عبد الله بن جدعان، ولكنه كان يذكر صفة جميلة فيه وهي كرمه ويده المعطاءة، وهذا أسلوب لتعظيم وإعلاء قيمة صفة الكرم والتي لا تنفك عن صفات المؤمن، والذي ينفتح على فضاء التكاتف والتكافل الاجتماعي وإشاعة روح بلسمة آلام الآخرين والاستشعار الوجداني بحاجاتهم.
كما أن واقعنا المعاش وحاضرنا تكتنفه من الخصوصيات والظروف والمتطلبات ولغة الحوار والتفاهم وبرمجة الوقت ما لا يتشابه ويتوافق مع زمان آخر، ولذا نجد هذه الالتفاتة في تربية الأطفال ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): “فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم”، هناك قيم ثابتة كالصدق والأمانة والطموح واستثمار الأوقات التي لا تتغير ولا تتأثر بزمان أو مكان، ولا يمكن التلاعب بها كما يصنع المخادعون في استطالتهم على القيم بتغيير عناوينها وأحكامها بحجة: الوقت والزمن اختلف، فيجعلون من النفاق والكذب ذكاءً ومن الرشوة هدية، وهناك المتغيرات كمفردات التربية والقضايا الاجتماعية والزاد الثقافي والذي يلحظ فيه المستجدات والعوامل المؤثرة فيه، حتى تكون أحكامنا ومواقفنا متناسبة ومتوافقة مع المرحلة ومتطلباتها فهناك أولويات لابد من ملاحظتها في التقديم والتأخير، وكذلك تستجد من الظواهر السلبية والأزمات ما لم يكن معهودًا وتحتاج إلى أهل دراية وعلم يدركون خطرها وطرق التعامل معها، فعلى الساحة العقائدية والأطروحات الثقافية والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ما يحتاج أولًا إلى خطاب يتناسب مع عقول تملك وعيًا ونضجًا، وثانيًا إلى دراسة وبحث معمق يراعي الظروف والاحتياجات والحلول والمعالجات الممكنة، وإلا أصبحنا رقمًا هامشيًا في التحرك لا تأثير له وكأن الناس يعيشون في كوكب آخر، فأحد أسباب الشعور بالغربة الفكرية هو الانغلاق والجمود وانقطاع التواصل مع شريحة الشباب واحتياجاتهم.
وأما تطلعات الشباب وطموحاتهم وآمالهم التي يرغبون في الانطلاق نحوها بهمة عالية وإعداد جيد يكفل لهم تنمية لقدراتهم ومواهبهم، فهذا يحتاج إلى امتلاكنا للحاسة السادسة والسابعة وما بعدها للتعرف على ما تحمله الصورة الشاملة للحياة المستقبلية وما يحتاجه الإنسان ليدخل ذاك العصر ويكون عنصرًا فاعلًا ومساهمًا بقوة في صنع مستقبل باهر، فالأجيال القادمة ستكون حاملة لمشعل العلم والتحضر وإكمال المسيرة المشرقة، وهذا ما يحتاج إلى توفير الأرضية العلمية والمهنية والتدريبية لهم.