
فجر ساكن وحالم يداعب طيف أرواحكم ويناجي خيوط الأمل والتفاؤل المرتسمة على جبينكم أيها المتقاعدون. عندما بدأت أكتب يكون في بالي دائما مهما كتبت لا استطيع أن أرضي كل القراء، ولكن من حسن حظي أن أجد في هذا الزمن الصاخب ورقة وقلمًا للكتابة ونخبة رائعة من القراء، وأعتقد يا أعزائي أنه مقال يستحق التأمل لن أقول للجميع ولكن لبعض من يستهوي ما أكتبه!
ومن هذا المنعطف شعرت بسعادة خالصة وخصصت هذا المقال لأتوحد فيه بنفسي مع مجموعة المتقاعدين، أشعرتني الفكرة بالتحرر والحرية المتدفقة بالثقة والنشاط على غير عادتي، أعلم تمامًا أن ما سطرته هنا قد لا يعجب البعض ولكني اعتدت أن أبوح بما في داخلي وبطريقتي الخاصة، وكنت مضطرة لأبيح وأسمح لنفسي هذا التجاوز البسيط، وأقدم اعتذاري الشديد في طرح مقالي هذا، ولعل هناك من يوجه لي بأصابع الانتقاد بأن موقفي متعنت!
كوكبة الذكريات والأفكار قد تتسلسل بحروفي ومعها تختلط مشاعري، اعذروني يا أعزائي أنا لا ألزم أحدًا بمتابعة هذه السطور من ذكرياتي، وأيضًا لا أرضى لأحد بإجهاض أفكاري، حيث لا أكتب لملء الفراغ فالفراغ أصغر من أن يملأ كياني، وليس من قبيل الجنوح للرومانسية أو التعظيم أو المبالغة باستذكار تفاصيل حياتي، ولا حتى للمقارنة مع أيامي هذه إذ لا وجه شبه يجمعهم، حيث المقارنة تبدو مستحيلة بأي شكل كان.
لكل زمان طقوسه وطقوس التقاعد أن تحل به أرواح عذبة رقيقة كماء السماء مكافأة الخدمة الطويلة والكفاح الكبير، فاسمحوا لي يا من تقرأون فكرتي المتواضعة أن نقف سويًا ولو لبرهة حتى تعيشوا مع سطوري، ولا أخفي عليكم أن قمة سعادتي بدأت من بعد تقاعدي ومسيرتي التطوعية وعلى أثره قررت أن أعمل أنجز أعطي أهدي وطني وأنال شرف وفخر وطني.
قد لا يخلو بيت من وجود متقاعد أو متقاعدة، ماذا لو نستشف دواخلهم وتسليط الضوء من خلال مقالي هذا، منتظرة الضوء الأخضر من القارئ حتى أواصل، فليس للقارئ العزيز حاجة بأن يزعج ذائقته الأدبية بأفكار مبعثرة من متقاعدة مثلي، لأكسر حاجز الصمت وأبدأ عن نفسي وأقول من يحزن عند التقاعد فهو مخطئ تمامًا، لكن لحظة يا أعزائي أقول ذلك لأنني أحببت التقاعد، وأجد نفسي أكثر تألقًا ونشاطًا بعد أن تحررت من عملي وقد تسألوني كيف ولماذا ولكن من غير أسباب!
لا أعلم ما هو سر الحب الذي أحمله وأكنه للتقاعد بل أعشقه بصورة هيستيرية، تسقط من نفسي كل الأشياء الثمينة، حيث أعتبر تقاعدي ساحتي الحرة التي أستجمع فيها كل ما تبقى لي من حياة، إنه سر عجيب لا أجد له تفسيرًا إطلاقًا ولكن الذي أعرفه أن هذا العشق يزداد مع الوقت وقد يلمس البعض ذلك، يكفي أنه مع اختلاف أقدارنا وأرزاقنا وأهدافنا وظروفنا، سيظل مع التقاعد الوقت حتى وإن اغتيلت صدق مشاعرنا.
في رحلتي إلى التقاعد كنت أستعيد روحي وذاكرتي بعد خدمة 27 سنة لدى شركة “أرامكو” وتقاعدت بهدوء دون صخب، ورفضت حفلة التقاعد والمغزى منها التكريم لأسباب مبدئية فلست بحاجة لكلمات الإطراء والمدح من هنا وهناك، ما هو أحيانًا إلا نفاق اجتماعي، خاصة أن هناك من ينتظرني بصدق مشاعرهم وأحاسيسهم، نعم زوجي وأبنائي، ومن الوفاء والأمانة علي أن أذكر بأني غادرت عملي وزملائي وزميلاتي وأنا أكن للجميع التقدير والذكرى الطيبة، كانت فترة رائعة مليئة بالتعاون والاحترام والنشاط ومازلت أتذكرها بين وحين وآخر ويرتاد قلبي الحنين، من أهم المسائل التي لفتت نظري أولًا، إن الموظف رغم أنه قد ارتبط بوظيفته إلى درجة الانصهار إلا أنه لا بد أن يعود لنفسه وأهله يومًا.
وكان التقاعد يشدني بقوة وقبل أن أحتسي قهوتي كانت الذكريات تشدني أكثر، حيث جعلتني أتجول في ثناياها وكأنها تعيدني إلى أيام عملي، فعند مغادرتي إياه شعرت أن بعضًا من روحي بقي هناك، ولكن لابد من التقاعد في محاولة لاستعادة نشاطي، حيث ترك في ذاكرتي نقوشًا ليس من السهل أن تمحى.
أعتبر قرار التقاعد المبكر رحلة مع ذاتي لتحريرها من كل الضغوط والقيود، بل هي وقفة ألتقط فيها روحي ونفسي، حاول يا قارئي الكريم أن تفكر وتجرب التقاعد دون النظر إلى سلبياته أو خسارة وظيفتك أو جزء من دخلك الشهري، وأعني بالشخص المؤهل للتقاعد، ولأن تقاعدي جزء من حياتي مساحته صاخبة بالمشاعر، وهكذا أعتبر قرار تقاعدي عزفًا منفردًا يثير شجوني وكياني، حتى مذاق القهوة أثناء فترة التقاعد يختلف باختلاف مع من تحتسيه!
إذن سأسرد هنا بعض الخواطر ربما أعتبرها ذكريات ولكنها ستخلد معها بنت القطيف، دعوني أتخيل حكاية كتبها الزمن ولم يعد لها وجود أو أكثر ربما بعثرتها الرياح، حيث إن المتقاعد دائمًا ما يشعر كأن الزمن توقف عنده ليأخذه في قطار سريع إلى مشارف الشيخوخة، رغم أنني لا أكترث أو أقف عند هذه الكلمة التي تزعج البعض بطريقة ما!
اعتدت يوميًا أن أخترق الكورنيش بطوله وعرضه مع رفيق دربي وملهمي زوجي العزيز كرياضة يومية نمارسها معًا منذ زمن، وهذا الكورنيش الحالم الذي يتغنى بوجودنا عنده يوميًا نحن الرياضيين مرتادي هذا الكورنيش، الذي يصادفني عند الإجازات والأعياد ازدحام من الناس منهم شيوخ وشباب ونساء ورجال غير الأطفال طبعًا، هذا المنظر يتكرر كما ذكرت في الإجازات وخاصة أيام الصيف فليس لي مكان أمارس فيه رياضة المشي غيره، لكن هناك رجل مسن أثار في نفسي الأسى دون غيره يجلس على كرسيه المتحرك ويرافقه سائقه وكأن هموم الدنيا على رأسه، وعرفت عنه فيما بعد أنه متقاعد من إحدى الشركات ولديه ثلاثة أولاد دون الاهتمام به، يبدو الإنسانية قد ابتعدت عنهم، وكأنني أشعر ببعض التأوهات؛ لقد انتهى أمره وعمره لأنه متقاعد !
أتعجب ممن يظن أن المتقاعد لا حياة له أو أن التقاعد نهاية الدنيا، ولكني أراها دون مبالغة بداية رائعة وجميلة جدًا بل هي فرصة اكتشاف الذات، أتخيل ذلك الرجل بعد تقاعده قد استسلم للبيت والمرض والوحدة، يا إلهي أبعد هذا أقلق أني متقاعدة لا والله ويشهد علي ربي وحده أنني في هذه اللحظة، وبكل ألوان الصدق قد تبللت أهدابي بالدموع نعم بكيت تقديرًا وامتنانًا لزوجي فهو أجمل ما في تقاعدي! صبرك عليَّ يا قارئ العزيز أنا لم أكمل فكرتي وسأعاود الحديث معك لاحقًا، وهذه فرصتك أن تبعد قليلًا عن كتابتي لتحتسي كوبًا من القهوة وما أدراك ما هي القهوة، لعلني أوجعت رأسك وخاصة القراء الشباب الذين لا يعنيهم أو يهمهم موضوعي بشيء، فأمامهم الكثير من السنين حتى تستوقفهم فكرتي هذه قد يتساءل بعض القراء إذا كان لدي هناك موعد مع الشاي أرد ومتسائلة أيضًا أتقصدون الشاي المعتاد؟ نعم أحتسيه كطقس من الطقوس المعتادة أيضًا، أما عن قهوتي فهي راحتي وسكوني، ففنجان من القهوة يشعرني بأنني كل شيء، ألا يكفي لونها الغامق الذي يروقني ولا عجب في ذلك، يعجبني فيها أنها تشبه شخصي فعندما أرتشفها أشعر بأنني مع ذاتي دون الشعور بمرارتها، بل ألمس دخانها وقد استنشقه قلبي وأجد نفسي مبتسمة لا لشيء، ولكن ألمح زوجي مبتسما قبلي، يا له من إنسان يتخلل وجودي وروحه تسكن روحي بل هو بعض من كلي.
أبعد هذا أقلق بأنني متقاعدة، لا والله وأحلى ما في تقاعدي وجود زوجي معي المتقاعد قبلي، وكثيرًا ما تحسرت على تلك السنوات الطويلة ونحن نشقى كل منا في عمله، والآن حان الوقت أن نتمتع بفترة التقاعد كيفما نشاء ولا أبالغ إذا ذكرت لا أتخيل أوقاتنا كيف تجري كالبرق دون ملل أو ضجر! أعتبرها صورة ليست احترافية وثمنها باهظ لكنها أحاسيس وأفكار إضافية تواكب مزاج المتقاعدين ولتكن أعمارهم ما تكون! وتمضي الأيام والسنين وتجري عقارب الساعة ملوحة لنا بإشارات الزمان وأي زمان هذا!
يدهشني ألم ووجع وتوتر البعض عند التقاعد ما الذي يزعجهم عليهم التأقلم مع المرحلة التي وصلوا إليها، وإيجاد الاهتمامات المناسبة وإلا سيكونون فريسة الأمراض والأوجاع الجسدية والنفسية والملل والاكتئاب، كما لمسته من ذلك الرجل ذي الكرسي المتحرك، هل هذا حقه بعد العمل والكفاح الطويل أن يبقى لوحده وكأن ورقة عمرها آيلة للسقوط! إنه لا يمثل الكل بل هو صورة استثنائية للمتقاعدين تحمل الأسى وقلة الوفاء له.
دعني أهمس بإذنك لعلك لا ترغب أن يعرف أحد عن قرار تقاعدك قائلة: متع نفسك بشروق الشمس وغروبها وبلون السماء والبحر، اخلق جوًا من السعادة في بيتك ومع أهلك، واقتنع بما تملك فهذه ثروة بين يديك، ومع التقاعد نكون أقرب للدار الآخرة، فهناك مجالات واسعة في العبادة وأعمال خيرية، ليشعر المتقاعد بأن له وجودًا بعيدًا عن الطقوس وضغوط العمل وحتى لو كان فقط مهتمًا ببيته وأسرته أليس هذا كافيًا.
هناك ضرورة تغيير نظرة المجتمع للمتقاعد على أنه لا دور له، وإنه مستهلك لا منتج وساكن بلا حركة بل هو مفعول به بلا فاعل! لطفًا اسحبوا كل هذه الخرافات والتجاوزات عن المتقاعدين فأنا واحدة منهم فلا أشعر بتلك الصفات المزعومة ولا تشبهني أبدًا، فلدينا نحن المتقاعدين طاقة متجددة ومستمرة فلا تحاولوا مصادرة إنسانيتنا وطاقاتنا وإن كان البعض يعاني من فراغ يكاد أن يكون قاتلًا، لا شيء يعزي الإنسان الذي يملك طاقة بتوقفه عن العمل إلا العمل، فبعد التقاعد حياة أخرى يجب التخطيط لها بكل دقة.
الكل يدرك أن للمرء طاقة يستخدمها يوميًا أثناء عمله، فإذا توقف عن استثمار تلك الطاقة سيؤدي ذلك إلى اضطرابات عصبية ونفسية وحتى اجتماعية، ويشعر البعض بالكآبة والملل، ولعل البعض يجلس دون نشاط وفجأة يكتشفون أجسادهم قد بدأت في الضمور وصحتهم في التدهور كما حدث لذلك الرجل بكرسيه المتحرك! ولكن هذا القول ليس للجميع فالمتقاعد شخص واقف على رجليه وفرص العمل متاحة له من جديد ليتجه للعمل التطوعي حسب خبرته وقدرته ورغبته.
تمثل فترة التقاعد لمعظم الناس صدمة ومرحلة صعبة مليئة بالألم والكآبة، وعلى المرء المتقاعد أن يحيا حياة سعيدة بعد عمل طويل وذلك لتجديد دائم، وهل هناك من يعتبر الزوج المتقاعد عبئًا على زوجته وأسرته ويتذمرون من بقائه بالبيت والحياة لا تطاق بوجوده! فترة التقاعد متعة وراحة وإنتاج بإبداع أيضًا وهناك شواهد وأدلة عديدة على أن التقدم في العمر لا يعني مرحلة الإفقار والتوقف عن العطاء والإبداع.
ألم تسمعوا عن الروائي الفرنسي برناردو الذي فاز بجائزة أكاديمية عن روايته “الثعبان القصير” وهو بعمر الخامسة والسبعين؟ المهم هنا ليس بالجائزة بل هو الإبداع الذي يظهر إلى الوجود في أي زمن من عمر المرء، وطبعًا البعض منكم قد أصيب بالدهشة على قدرة هذا الروائي الثقافية وهو بهذه السن! ألا يكفي أن الرجل السياسي تشرشل الذي كان وهو في الثمانين أو أكثر قادرًا على القيادة بحماس، لعله أثبت لا وقت لديه بالسؤال هل فات الوقت والأوان؟ ولأنه لم يتقاعد قبل الثمانين، وذلك لا حدود ولا عمر للعمل والإبداع.
وقد نلاحظ في أمريكا مثلًا هناك عددًا كبيرًا من كبار السن من يواصل عمله الرسمي حتى بعد السبعين! إذن لا داعي لليأس ولنستثمر خبرة المتقاعد ولنقوم بتجنيد الطاقات لتسيير الصعاب، ولنتذكر أن ميدان الحياة رحب جدًا والإبداع يفتح آفاقًا للجميع مهما اختلفت أعمارهم ولابد من دمج المتقاعدين للاستفادة.
أشكر هنا ذاك الرجل المسن ذا الكرسي المتحرك الذي ساهم منظره في إحياء روحي، فلم أجد نفسي إلا تكتب ما ترك المشهد المؤثر في داخلي، فقد تمكن من إثارة مشاعري ودفعي لكتابة مقالي هذا، في وقت كنت أبدًا لا أفكر أن أكتب عن التقاعد ولم تحضرني الفكرة أبدًا.
وأخيرًا أملي أن يرضى الله عني وأن يكتب لي مع من أحب الجنة، وأن أكون قد نجحت في تكريس مفهوم التدريس الإنساني! ولا أخفي قمة سعادتي تكون عندما أبدا يومي بحب وأنهيه بحب آخر.