«شجرة الطيبين» 3-3

مع إطلالة الربيع تبدأ شجرة البمبر بنمو أوراقها الجديدة، تتخلص من أوراقها الخريفية شيئًا فشيء، فهي لا ترمي أوراقها دفعة واحدة، فأغصانها لا تبقى جرداء مثل كثير من الشجر وإنما تنسل أوراقها المصفرة بالتدريج، تتحول للون البني وتسقط أرضًا على دفعات وفي ذات الوقت تنبت أوراق جديدة على ذات الغصن الواحد، أوراق تتجاور بين خريف وربيع، شجرة تحمل النقيضين في آن، بين نابت قادم وبين هرم مودع، بين موت وميلاد.

وهذه اللحظة الزمنية لشجرة البمبر في فترة تبدل أوراقها السنوي، تشبه إلى حد ما منازل الأسر، بين فقد فرد وميلاد آخر، وبين من سيبقى إلى حين ومن سيرحل غدًا أو بعد غد، أوراق للفناء وأخرى تأتي للحياة وبعضها لم تزل باقية لأيام معدودات ثم ترحل عن غصن الشجرة، تمامًا مثلما تغادر أنفس عن أنفس وتترك البيت إلى غير رجعة، وتبقى أنفس أخرى تنتظر دورة الحياة وحتمية الفناء، كما الأوراق مع الفارق الزمني بينهما، وتبقى روح المكان شاهدة على التحولات.

تزهو شجرة البمبر مع اعتدال الجو وهبوب نسائم الربيع العليلة تكون جميع الأوراق خضراء براقة، وبعد أيام تتفتح أزهارها الجميلة العبقة بأريج أخاذ، رائحتها تملأ المكان عطرًا وشذى، تتحول الزهرة لثمرة خضراء تتدرج في الحجم، وحين تقبل حرارة الصيف تنضج ثمار وراء ثمار، وعند منتصف شهر 6 وعلى مدى شهرين إلا بضعة أيام، ترمي خيراتها أرضًا.

أستجمع من مزارع الأصدقاء أو الأقارب أو الجيران كمية تكفيني لمدة موسم شتاء كامل، وأحيانًا أعزز مشترياتي من سوق الخضار أو من الباعة المتجولين على نواصي الطرقات، طمعًا في الحصول على الحجم الأكبر والطعم الأحلى، لأن ثمر البمبر على الرغم من تشابهه إلا أنه يتفاوت من شجرة لأخرى ومن مكان لآخر اختلافًا في الطعم والحجم وطول فترة النضج، بعض الأشجار ترمي حملها خلال 45 وبعضها 55 يومًا، وهذا عائد إلى موقعها بين الظلال وأشعة الشمس، وكذا كمية الماء وطبيعة التربة التي تتغذى عليها.

تشتهر واحة القطيف بنوعين من البمبر، النوع الأول: وهو المتعارف عليه عند عامة الناس وهو الأكثر زراعة وانتشارًا، ويطلق عليه “البمبر الجبلي”، والنوع الثاني يسمى “البمبر البحراني”، وهو حاليًا منقرض أو شبه منقرض، ثمرته أصغر و شكلها بيضاوي وتكون ألذ من النوع الأول، حتى النواة ممكن قرضها خلاف الآخر.

معلومة أكدتها لي والدتي وصديق الطفولة محمد الصغير، وأبلغاني عن أماكن تواجد النوع البحراني في مزارع تاروت وهو النادر جدًا، تقول والدتي إنها كانت تغافل أمها في تنظيف أواني الطبخ في الذهاب بعيدًا للوصول إلى الـ”ركية” ذات الماء الراكد، وتترك العين النباعة المسماة “خشكار” وهي القريبة من منازلهم المصنوعة من السعف وجريد النخيل، في منطقة فريق الأطرش، والهدف من هذا العناء هو الوصول لشجرة البحراني المطلة على سور دولاب الأمير، المقابلة “للركية” مباشرة، تقطف وتلتقط ما طاب لها من ثمر البمبر النادر زرعه و “الحالي” جدًا طعمه، وأخبرتني عن شجرة أخرى تقع بين نخل “التناكيب” ومنطقة الخارجية، تطعم كل عابر بجانبها.

وذكر لي أخي (محمد الصغير) عن معلومة لست متأكدًا منها بأن البمبر البحراني يسمى أيضًا البمبر الأمريكي! وقال: “رأيت شجرتين؛ واحدة في نخل الجشي والثانية على سفح قلعة تاروت من الجهة الجنوبية”، وهذه الأخيرة أكلنا منها مرارًا، وكنت أتساءل من الذي زرعها في هذا المكان؟ قبل سنين قلعت عمدًا وظل جدعها ممددًا يشكو لجدران القلعة ضيم الأيام.

مع تعدد أسماء البمبر من بلد عربي إلى آخر، أهل البحرين أطلقوا تسمية إضافية على البمبر عندهم “مشمش بحريني، أو غوج بحريني”، نظرًا لحلاوته وكبر حجمه، ووجدت تسمية غريبة للبمبر “الغوج الآشوري” هل هو منسوب لحضارة آشور في العراق؟ لست أدري رغم أن أهالي البصرة النابت عندهم الشجر بكثرة يطلقون عليه البمبر.

شجرة البمبر عروس الأشجار، فعند شعوب أفغانستان وباكستان وشمال الهند؛ شجرة البمبر تعتبر في نظرهم مقدسة! نظرًا لفوائدها المدهشة.

لقد تعددت الأسماء هنا وهناك ونحن لم نغير الاسم بل تكبرنا على هذه الثمرة، وإذا سمعت أحدًا يستنقص منها باللمز أو الغمز، أعني “أبچي على البمبرة، وأبچي على التينة، وأدعي على من طعن صحتنا بسچينه”، إنهم المروجون للأكل الميت الذي أصابنا في مقتل، من الوجبات السريعة (الفاست فود) والمعلبات بأشكالها وأنواعها، والمشروبات الغازية والطاقة وعصائر السكاكر ذات الصبغات الملونة وغيرها من مقليات المطاعم والبوفيهات ذات الزيوت المهدرجة من كثرة الطبخ والنفخ، نرمي في جوفنا بتلذذ وقتي دون حسبان للمصائب التي تحل بأبداننا.

كم أنت مسكين يا جهازنا الهضمي، لا نرحمك طوال السنة ولا حتى في شهر رمضان، ونقول “صوموا تصحوا”، كم نرمي ونرمي في جوفنا مما هب ودب إلى حد التخمة والفطيسة، وكم رددنا في الأدعية “أعوذ بالله من شر بطن لا يشبع” ولكننا في الواقع لا نشبع، عند الأكل تعمى العيون وتُملأ البطون، “هات لقم” معدة مثل الخلاطة يرمى فيها من كل حدب وصوب.

إن جميع الأكل بكل صنوفه وأشكاله وأنواعه، كثيره أو قليله، كامل الدسم أو المنزوع، المحفوظ والمعلب والمثلج والمخزن “البايت”، والمغري والجاذب والكاذب، يظل تناولنا لهذا أو ترك ذاك هي مسألة قناعة شخصية ليس لأحد على أحد من سلطان كيف يأكل وماذا يأكل وأي كمية يأكل، ولكن وكما يقال كل واحد عقله في رأسه، والعاقل من اتعظ بغيره.

أدندن رأسي مع كل صباح تلذذًا بأكل 10 إلى 15 حبة من البمبر السكري من لحظة وقت النضوج إلى غاية توقف خيرات الشجرة، والتي لا تتوقف بمجرد سقوط أو قطف آخر حبات منها، إنما تتجدد للموسم القادم، هي شجرة معمرة تبقى شامخة على مدى 60 عامًا، ويصل أقصى ارتفاع لها 12 مترًا تقريبًا، يقال إن موطنها الأصلي الصين، ثم توزعت على الأقطار عبر طريق الحرير.

تنبت في بعض الأمكنة دون أخرى، لأنها تحتاج إلى أشعة شمس مباشرة، وإلى كمية متوسطة من المياه، هي شجرة ظليلة، ويميزها الناظر من بين كل الأشجار، حتى من غير رؤية ثمرها، تعرف من خلال تكوين جذعها ذي اللون البني الرمادي وتفرع انتشار أغصانها وكثافة وجمال أوراقها المميزة شكلًا ولونًا وملمسًا، إنها شجرة تسر الناظرين، وهي إحدى رموز بيئتنا القطيفية.

ذات صيف وعند مطلع الثمانينات نجوب الدرب من نخل “الريحانة” إلى نخل “حنان” من الجهة الغربية لقلعة تاروت، مع مجموعة أصدقاء الفريق، وفي أيدينا ثمار البمبر نلقيها في أفواهنا تحديًا؛ من الذي يأكل أكبر عدد ممكن من الحبات، وهي ثمرة ليس ككل الثمر بسبب سائلها الذي يشبه الصمغ، وإذا لم تستطع أن تمتص تلك اللزوجة كاملة وسعيت لإخراج النواة بأصابعك فإنها حتمًا ستلتصق بهما، ويا له من منظر، ونحن بين ضحك وهمهمة وسباق أكل، ننفض أيدينا عما التصق بها وبعضها يتناثر على ثيابنا ووجوه بعضنا، ظلت طعامة بمبر ملتصقة بإصبع صديق الطفولة محمد الصغير، وحاول نفض يده مرات ومرات وأثناء محاولته الحثيثة كان يردد جملة من أوبريت بساط الفقر، فقرة “عنترة” الذي تقمصه المبدع الفنان عبد الحسين عبد الرضا وهو يبعد الأميرة سمية (إبراهيم الصلال) التي تراوده عن نفسها قائلًا لها: “أنا في مقام أبي ومالك نعمتي، دلفي عن ويهي لأرفسنش رفسة الحصان في بطن قطوة، الشهامة والمروءة تلصق بي كما تلصق البمبرة فوق الرخام الأملس”، وبصعوبة بالغة تمكن صديقنا محمد من اقتلاع الطعامة من بين أصابعه.

تلك اللزوجة الشفافة هي سر من أسرار تلك الثمرة وهي بكاملها دون النواة دواء لعلل وأوجاع كثيرة.

عايدين عليه كل سنة وسنة يا شجرة الطيبين وكل من يحب أكل البمبر، سلام على من زرع تلك الشجرة المباركة الموصوفة جمالًا وغذاءً ودواءً.

بقي في البال ذلك المشهد البعيد، حين كنت صبيًا، أتجول بين مزارع خيلان والدتي ورجال خالاتي من أيام شهر يوليو، دخلت “نخل لفليه” القائم عليه عمي زوج جدتي أم أمي، وهو الحاج أبو جاسم سالم، أمر بين جداول الماء لمزرعة عامرة بما لذا وطاب من فواكه الصيف، نخل مشهور يقع بين مزارع شمال جزيرة تاروت بمحاذاة منطقة فريق الأطرش، رأيت عند عريش المزرعة مجموعة من الفلاحين جلهم من أقاربي ملتفين على “ريوگ الضحى” يتبادلون الكلام والطعام من رطب ولوز وبوبي وجيمبو وتين وبمبر ورمان، وكان يضم مجلسهم شخصًا حديث عهد بالزواج، وضعوا كمية كثيرة من البمبر أمامه وقالوا له: “عليك بهذه كل واجد منها هي بتريح في المنام”.

توزعت الضحكات بينهم وبدوري ضحكت من ضحكاتهم دون وعي أو فهم، ظننت أن البمبر مثل الحبوب المنومة ستجعله ينام ويغفو سريعًا، حين عرفت قيمة البمبر مؤخرًا فهمت ماذا كان يقصدون!

سلام عليكِ يا شجرة الطيبين.


error: المحتوي محمي