شجرة الطيبين.. 2-3

انطلقت قبل عشر سنوات مع بعض رفاق مهنة التدريس والفن، كنا خمسة فنانين متجهين لزيارة مجموعة معارض تشكيلية في مملكة البحرين، قصدنا أمكنة فنية عديدة من ضمنها صالة البارح للفنون التشكيلية.

وعندما اقتربنا منها، نزلت من السيارة ومن خلفي عباس المختار وعبد الغغور النصر، وتبعنا بعد لحظات عبد الله مهدي الأحمد وعبد الله علي حسين، وفي يدي الأول كيس ممتلئ بثمار البمبر وهو يأكل بعضًا من حباته، قال لنا تفضلوا يا إخوان وهو يردد “برد على قلبك وحلي ريقك بها الزين”.

فما كان مني سوى الامتناع عن أخذه، قائلًا له “الله يرحم أيام زمان أكلته منذ الطفولة إلى عهد الصبا، بالنسبة لي أصبح أثرًا جميلًا مرتبطًا بماضٍ أجمل، اعذرني يا عزيزي عن أكله”، وإذا بالكلام المرسل يسدده نحوي عبد الله علي حسين عن مدى أهمية هذه الثمرة، وهو الملم بالثقافة الغذائية، راح يكيل لها الفوائد الصحية.

ومن جملة ما قال إنها تسهل حركة الأمعاء وتنظف الجهاز الهضمي أفضل من أي علاج، فهي ضد الإمساك لمادتها اللزجة اللاصقة كالغراء، فهي تكنس كل السموم والفضلات العالقة في البطن، وأيضًا تلين المفاصل وتعالج بحة الصوت، وغنية بالمعادن والفيتامينات، وتمد الجسم بالحيوية.

وأسهب في الحديث عنها بشكل لافت، مختتمًا حماسه المطرد وكلنا في حالة انبهار مما يقول؛ يا إخواني “هذه الثمرة والله عجيبة ونعمة كبيرة لكن مع الأسف مهملة، أشبهها بصيدلية من صنع الطبيعة، تعالج أمراضًا وعللًا كثيرة، ما حد عارف قدرها، خصوصًا في ها الزمن، الله يرحم الأولين كانت ملازمتهم طوال السنة”، ولحظئذ “تحاوشنا” كل ما في الكيس ولم يبق منه ولا حبة واحدة.

ومع مرور الوقت، أدركت قيمة البمبر ابتداءً من ذلك المشهد، إذ حرصت على البحث عنه وأكله في موسمه كل صباح، وفطنت متأخرًا لكلام والدتي وكل ما قالته لي من قبل عن وصف هذه الثمرة الرائعة، لمست المنفعة بعين التجربة، والتجربة خير برهان، استشعرت الأثر الصحي لثمرة مهملة لا تلقى اهتمامًا من الناس كما الماضي، وبكل أسف بالنسبة لي غضضت الطرف عنها سنين طوالًا.

والحمد لله أنني اهتديت إليها مجددًا، عاودت أكلها بعد انقطاع تجاوز أربعة عقود إلا قليلًا، حقًا إنها ثمرة مدهشة وفعالة في موسم الشتاء، وخصوصًا حينما تزورني الحلوة الكذابة التي أستعوذ من قدومها، تأتيني وهي تتثنى غنجًا فتنهكني ليلًا من فتنتها، تغالبني وأغالبها وأدفع الغالي والنفيس لمقاومتها وبأي وسيلة كانت، وجدت الحل الوحيد الذي يخلصني من سطوتها وإغوائها في “ليالي المرابعين”، هو شراب “البمبر المجفف” السلاح الفعال لطردها، فكلما هيجتني أشجانها، أطلب المزيد من البمبر سواء من عند والدتي أو مما خزنته زوجتي صيفًا، وإذا مر شتاء ولم يكن عندي ما يكفي لمداومة الشراب، أذهب إلى “دكان بن جامع”) في القطيف، وأحيانًا أستغل تواجدي في البحرين أو الأحساء لشرائه من محلات العطارين.

وبالفعل إبريق مغلي من البمبر المجفف أشربه خلال أسبوع أو عشرة أيام فيقضي على الزائرة غير المرغوب في حضورها بتاتًا، مغيبة الأنفاس، كاتمة الصدور، بصوتها المفزع الذي يوقظ النائمين من سباتهم، إنها السعلة (الكحة) اللعينة التي تغيب أنفاسي كحبل مشنقة، تسرق النوم من عيني في ليالي الشتاء الباردة، شراب البمبر يطردها شر طردة.

تعتبر ثمرة البمبر خير منظف للجهاز الهضمي من كل ما علق به من شوائب، ويقال إن فائدتها الكاملة تكمن إذا أُكلت في وقت موسمها، لكن لابأس من أكلها طازجة من خلال حفظها لمدة أطول بوضع كمية من البمبر في كيس بلاستيك شفاف مليء بالماء ووضعها داخل فريز الثلاجة لتتجمد، وذلك للمحافظة على طراوتها ونداوتها طوال العام، ومتى استدعت الحاجة، ولاسيما عند اشتداد نزلات البرد، تؤخذ كشراب مغلي يختلف عن شاي البمبر المجفف أسود اللون، إنه شراب حلو المذاق بلون وطعم ذات الثمر المقطوف صيفًا، يضاف بعض من أعواد الزعفران إليه لتطييب نكهة الشراب.

وبالفعل أقوم بهذه العملية الهامة لحفظ البمبر بشكل مستدام طوال أيام السنة، وهي من تعليمات أستاذي عبد الله علي حسين، جزاه الله خير الجزاء، ومن شدة تعلقه بهذه الثمرة يهاتفني لنتشارك معًا في جني الثمار من مزارع الأصدقاء، ألف تحية لك أيها الأخ العزيز لما أسديت لي من فوائد صحية وخبرات فنية.

وكم هي العدوى الإيجابية جميلة، حينما يكون إنسان بقربك غير مكترث بطعام ما، وفجأة يستجيب لذلك الأمر، من خلال التوعية الصحية، وإبراز القيمة الغذائية لثمرة البمبر، هذا ما حدث لشريكة حياتي، فلم تكن تُقبل عليه من قبل أبدًا ولا تستسيغ أكله، وتقول عنه إنه مقرف، والآن تساعدني في التقاطه من تحت ظلال أشجار البمبر، وتتفنن في تحضيره وتجهيزه وتخزينه، وتزودني بالمعلومات الإضافية الغائبة عني من خلال اطلاعها في فضاء النت، بل أقنعت الكثيرات من أقاربها وصديقاتها بالإقبال على تناول البمبر، بل وتهديهن مما عندها ليعالجهن من نزلات البرد وشرور السعال.

وأثناء كتابة هذه السطور ارتشفت معها بضعة كؤوس من شاي البمبر المعطر بماء الورد والزعفران.

للبمبر أسماء مختلفة، ففي الإمارات وعمان يطلقون عليه “همبو، اللمبو، همبوه عمبو، القاو”، هذه التسميات وصلتني من الصديق العماني الفنان سعيد العلوي، وفي مصر يطلق عليها “مخيط”، وفي سوريا تسمى “دبق”، تسميات عرفتها من أحد الإخوة الفنانين من كلا البلدين.

للبمبر حضور في ثقافتنا الشعبية منذ القدم، إذ تحرص جميع الأسر القطيفية على تناول مشروب شاي البمبر، وله حظوة مفضلة عند الخطباء والخطيبات، لأنه مجلي للصوت ومخفف من احتقان الحنجرة، من جراء إنهاك الأحبال الصوتية من كثرة النعي والنياح، ولفحات البرد.

شراب مغلي البمبر صديق مجالس الطيبين، الذين تبادلوا الكؤوس الدافئة في راحة بال بأجسام صلبة رشيقة القوام لا تعرف للسمنة محلًا، أكلوا من منتوج حصادهم فقويت أبدانهم بصحة وعافية، ثمة ارتباط قوي بين تمتع الإنسان بصحة جيدة والطعام الذي يأكله النابت من تربة بيئته التي يعيش فيها، وكما قيل: “اختر علاجك بنفسك ومن أرضك “.

سلام على أرواح من زرعوا ورحلوا عن دنيانا وبرحيلهم تناقص أنواع النخل وأصناف الشجر.

هل نبكي عليكِ يا نخلة ويا بمبرة، أم نبكي على وعينا المتردي لكنوز الأرض؟!


error: المحتوي محمي