شجرة وارفة الظلال تؤتي أكلها صيفًا مع اقتراب نهاية شهر 6 الميلادي، ألتقط ما ترميه أرضا حبًا للرائحة والذكرى، وبحثًا عن لذائذ الطعم والعلاج.
أصبح الآن ثمرها مهملًا لا تلتفت له كل العيون، البعض يدرك أهميته غذاءً ودواءً، وآخرون يجهلون المنفعة، وإن عرفوا لا يعنيهم من الأمر شيئًا، وهناك من يستهجن قضم الثمر وإن تشجع ليتذوقه فإنه يأنف من مضغه، رأيت أفواهًا بصقته حالًا، قائلين: “لا نستسيغ طعمه أو بلعه، ما هذا الغراء لقد التصق بحلقي بلساني، أف أف، تف تف، إنه مخاط نبات”.
شجرة من أديم هذه الواحة السخية بالخيرات، تنبت في تربة طينية ممزوجة بالرمل، هي مغروسة بذاكرة الآباء والأجداد، أوراقها كثيفة وشكلها أشبه بالقلب، عريضة ملساء مموجة الحافة، لونها أخضر زيتوني، وثمرها مثل حبات الثريا، تتدلى متعة تسر الناظرين.
يقوم بعض الأفراد قديمًا وحديثًا بزرعها بالقرب من جدران سور المنزل داخليًا أو خارجيًا رغبة في ظلها وجمال المنظر وطردًا للحشرات والجان، ربما من قام بزرعها في الوقت الحالي لا يدرك قيمة ثمرها الصحي ذي اللون اللؤلؤي الذهبي، فكلما نضجت حبات تساقطت حول محيط الجذع وتبعثرت، وبدلاً من التقاطها بالأيدي تنوب الأرجل العجلى بدوسها سحقًا، تلتصق بحذاء العابرين دون مبالاة، أما سمعوا قول الأولين الساعين في البر والبحر، إياكم أن تدوسوا على كسرة خبز أو ثمر، قدروا النعم وقولوا الحمد لله الذي أطعمنا من جوع وآمننا من خوف.
ما أحلاكِ أيتها الشجرة، وعن ثمرك المكنون سأقص الحكاية مع ارتشاف من منقوعك الدافئ بدلًا من إدمان شاي الكافيين والقهوة المضرة.
إنها شجرة البمبر النابتة في أرضنا منذ القدم، ولا يخلو بستان أو نخل إلا بوجودها، وثمرها موسمي كحال الرطب ولكن هي تسبقه نضجًا بأيام معدودات، تلقي ثمرها ابتداءً من منتصف شهر يونيو وعلى امتداد شهر ونصف تقريبًا، ترمي حملها كاملًا هدية لبني الإنسان، ثمرها وورقها يتساقطان مرة واحدة في العام ويتجددان مع دورة المواسم.
للبمبر مزايا عديدة، وفوائد جمة، وليس بالضرورة أن يقتنع بقيمتها من لا يستسيغ طعمها وليس مجبرًا على أكلها، فالمسألة اختيارية فيما نأكل أو نشرب، وليس كل ما نرميه في جوفنا من أطعمة هذا العصر وإن أغرانا مذاق المنكهات فهي كالفخاخ تتصيد أجسامنا وترمينا مهاوي الأذى، وبالمقابل هناك أطعمة ينفر البعض من أكلها ولكنها مفيدة للجسم ومنها “البمبر”.
كلما تدلت أغصان الشجرة المزدانة بالكرات اللؤلئية تطوف بي الذكرى لزمن الطفولة والصبا، كنا ننتظرها بشوق بالغ كحال أي ثمرة موسمية، ولم تكن مغريات الأكل العصرية موجودة، وبعد أن تسلل الجاهز والمعلب بدأنا التخلي عنها فحاصرتنا الأمراض فتكًا بأجسامنا.
وأتبسم في خاطري عن المجهود التي تبذله والدتي في نشر حبات البمبر على سطح المنزل، تتركه تحت أشعة الشمس أيامًا حتى يجف ويصبح قاسيًا، تلتقطه وتغسله مما علق به من غبار ثم تضعه في أكياس، وتخبئه لموسم أمراض الشتاء، وعند الحاجة تخرج بعض الحبات اليابسة وتضعها في إناء به ماء وتتركه على النار لحد الغليان، ترفع القدر حالًا مع ضغط على الحبات ليرتطم بقاع الإناء تفتيتًا بملعقة خشبية، يصطبغ الماء بسواد الثمر ثم تسكبه في دلة شاي جاهزًا للشراب.
منذ أن وعيت على الدنيا ووالدتي تقوم بهذه المهمة وإلى اليوم، وليس هي وحدها بل كثيرات من نساء البلدة يقمن بذات العمل ومنذ سنين نقلًا عن أسلافهن، حقيقة لم أدرك قيمة منافع البمبر إلا مؤخرًا برغم أن والدتي أخبرتني مرارًا عن فوائده العامة، وبين اهتمام آنٍ وحماس لحظوي، وبين تغافل ونسيان هجرت هذه الثمرة، مرت سنون حتى صار البمبر في نظري جزءًا من تراث البلد، يجذب المؤمنين بالطب الشعبي فهو أنيس الأولين وتجارة الحواجين، كم يسرقنا صخب الحياة عن كل ما هو ثمين.
دروب الأمس ورائحة الزهر تأبيان الرحيل، والدانيات من الداليات تستعصي على النسيان وكلما أتى “قيض” تراقص الحنين باشتهاء القطف لاسترجاع ما تجود به الأرض، وما أحلى الرجوع لذلك الطقس لأثمار مبللة بقطرات الندى، تنفس صبح وأزحت عن كاهلي حجب الهجر قبل عقد من الزمن.