مفارقة عجيبة بين حياة يتخللها القانون والانضباط ويسيّرها العمل المثابر بهمة وفعالية عالية، وما بين بعثرة وضياع وأزمات متلاحقة لا نهاية لها، وبين يدي لجنة التحكيم أولئك يفوزون بالرفاهية والسعادة وهؤلاء يئنون بين مطرقة البؤس وسندان الحرمان.
تلف بعضنا الدهشة بل الحيرة من هذه المباينة بين حال الموحدين المؤمنين بالله تعالى، وما نراه من أحوالهم المشتتة والبائسة وانبساط الفقر والجهل وافتقاد مقومات الحياة الكريمة بينهم من جهة، وبين حالة التقدم والازدهار المحققة للحضارة الإنسانية المشرقة عند من لا يعتنقون العقيدة الحقة، فأين يكمن الخلل حتى نستطيع رفع الغشاوة عن عقولنا، أو تبقى الحيرة سيدة الموقف فيصاب المرء بردة فعل عنيفة تجاه المعتقد الديني؟
فهل من المعقول أن حياتهم
الاقتصادية تختفي منها بشكل كبير حالات الغش والسرقة والوساطات والبطالة المرتفعة، بينما تزدهر هذه الآفات بين المسلمين حتى أحدثت حالة انفصام أخلاقي، فالفكر النظري تسطر فيه آيات القانون القيمي والتربوي في حين أن السلوك يباينه بشكل كبير، وكأن القرآن الكريم والسُّنّة المطهّرة لم توضع كدستور ونهج عملي نقتفي أثره؟
بل والأنكى والأفظع هو تسرب مفردات الشرور والظلم بعناوين مختلفة ومتنوعة تمليها الشياطين الغاوية، فنستبيح شخصية الآخر وماله وتهضم حقوقه إذا كان مسلمًا فضلًا عن غيره بحجة أنه ليس من جماعتي ولا يتبنى نفس أفكاري!
ولنولج في ساحة الألم والوجع فنقول: المسلم من ناحية نظرية هو من أتباع الصادق الأمين (ص)، فيتوقع منه الآخرون إعلاء قيمة الكلمة والنطق بها بما يحقق مصداقيته، وإن احتجت لإيصال أمانة فليس هناك من مستودع كمسلم يحرّم ويجرّم دينه الخيانة والسرقة، ويا لهول المصيبة حينما نرى أسرع الناس للنهب هو من يدين بالإسلام بينما تجد الملحد يهرع لنجدة الملهوف والمتضرر وحفظ الأمانة، طبعًا هذا لا ينفي الأمانة عن كل موحد ولا يثبتها لكل ملحد، ولكنها موجودة بنسبة معينة.
بل ويجد الموحد الذريعة والمبررات الواهية لظلمه ونهبه وجشعه وشحه بأنه موحد له الآخرة وهو خارج مظلة المساءلة والحساب، إنما الخزي والعذاب الأليم لذاك الجاحد بآيات الله تعالى والمكذبين بها.
التوحيد والإيمان عقيدة وسلوك وليس مجرد شعارات زائفة يقنع بها المرء نفسه الشهوية، وعليه تحقيق إيمانه بصدقه وأمانته وتعامله الحسن وكف أذاه عن الغير تمامًا، كما يحققها بالصلاة والصوم، قد جعل من الورع عن محارم الله تعالى والخشية منه قبانا ونصفا بينه وبين حقوقهم، يراقب الله تعالى في نفسه وفي غيره فلا تتطاول نفسه للخيانة وانتهاك الأعراض، فالموحد المؤمن يصون نفسه عن التلوث بالشهوات والذنوب وإن أمن العقوبة من الناس والمسؤولين لأنه يخاف الله تعالى ويحذّر من استحقاق عقوبته (عز وجل)، فنزاهته واستقامته وصدقه معالم شخصية المؤمن ومقوماتها ودونها لا يمكن عده مؤمنا حقا بالله تعالى، فالكذب وخيانة العين وبقية الجوارح لا يمكن تبرير فعلها مع أي شخص كان، فالجنة لن تكون يومًا مستقرًا ومقاما لمن يكذب ويفجر ويسيء للآخرين ويحتقرهم، ولن يكون من الفائزين من اكتنز الأحقاد والكراهيات للآخرين لمجرد موقف أو خلاف حصل.
الإيمان أمانة ثقيلة وعهد مع الله تعالى وسلوك عملي يفصح عن هوية الفرد، فالكلام وحده لا يجعلنا مستحقين للثواب بل هي التصرفات والكلمات ذات المصداق والتعامل الأخلاقي الرفيع هو ما يحدد مبتنياتنا.