بين خطوة الفرشاة وبصمة اللون وجدت نفسها طفلة متعلقة بهما، وبين كتلة المادة وحركتها اختارت للفتاة الناضجة داخلها تخصصًا، وكان عليها أن تبتعد عن التخصصات المتعلقة بشغفها الفني رغبةً منها في شهادة علمية تؤهلها لمجالات وظيفية أوسع أفقًا؛ إلا أن ذلك التخصص جر تخصصًا آخر، والشهادة صاحبتها شهادات أخرى، ورغم ذلك كله بقي الفن وسمًا لها، لقبًا يسبق اسمها، وكأنه اختار أن يبقى وفيًا للطفلة التي اختارته.
الفنانة التشكيلية مريم الشملاوي، علاقتها بالفرشاة والألوان بدأت كهواية طفولية، اكتشفتها تلك الطفلة بتقليدها لرسوم الكرتون آنذاك، والتي ما زالت تحتفظ بها.
وقد كان ثناء والدها -رحمه الله- مشجعها الأول، وخاصة عبارته: “أنا فخور بك جدًا” وسام تأكيد لها، علّقه على صدر طفلته لتشعر بالفخر والحماس للمواصلة كلما عاودتها الذكرى.
بين معلمة ومعلمة
“الشملاوي” المنحدرة من مدينة القطيف، تذكر كيف تبنّتها معلمتها في المرحلة الابتدائية، وكيف كانت تثني على اللوحات البسيطة التي كانت ترسمها، كما أنها كانت تعلقها في ممرات المدرسة تشجيعًا لها.
وتصف شعورها في ذلك الوقت بقولها: “كم كانت سعادتي غامرة حينما كانت تأخذ كراستي لتريها للموجهات، فهي أول من تبنّت موهبتي ودعمتني”.
وعلى خلاف تلك المعلمة، صادفت مريم معلمةً أخرى تسببت لها بانتكاسة فنية في المرحلة المتوسطة، بعد أن أخذت معلمة التربية الفنية تنهرها وتشكك في أنها ليست من يرسم تلك اللوحات.
تعود بذاكرتها لتلك المرحلة، وتقول: “أذكر جيدًا كيف توقفت طوال فترة المتوسطة عن الرسم بسببها، حتى لا أسمع منها جملة: ارسمي بنفسك لا تدعي أحدًا يرسم عنك، لا تكذبي فلستِ أنتِ من رسم هذا”.
فيزياء وفن
لم تتخصص مريم أكاديميًا في مجال هوايتها، بل اختارت تخصصًا بعيدًا عنه، حيث درست الفيزياء وحصلت على شهادة البكاليريوس.
ولم تتوقف على ذلك، بل عادت لتتخصص من جديد في إدارة الأعمال، وتحصل على شهادة البكاليريوس في هذا التخصص.
وتقلدت بعدها وظيفة مديرة لأحد المراكز الطبية الخاصة، إلا أن شغفها بالعلم جعلها تتنحى عن الوظيفة لتكمل دراسة الماجستير.
وعن توفيقها بين العلم والفن قالت:” خلال دراسة الفيزياء كنت لا أعمل، وكنت أمارس الفن كهواية في أوقات الفراغ، فقد اعتبرت نفسي حينها هاوية فقط”.
وأضافت: “أما خلال دراسة الإدارة كنت أقدم على إجازة من الوظيفة في أوقات الامتحانات، وكنت أجد في الرسم متنفسًا لي في أوقات المساء غالبًا”.
عائلة تقدر الفن
انشغلت بعد ذلك بدراستها، ولم تأخذ موهبتها على محمل الجد -حسب وصفها- إلى أن تخرجت، وبدأت بالالتحاق بدورات تشكيلية لتنمية موهبتها، وهو الأمر الذي اعتبرته بوابتها للدخول للمشاركات الفنية والمعارض.
تقول لـ«القطيف اليوم»: “لست من عائلة فنية، فأنا الوحيدة التي ترسم في عائلتي، لكنهم جميعًا يحبون الفن ويقدرونه، ويشجعونني على الدوام، حتى إن الدورة الفنية الأولى التي سجلت فيها جاءتني هدية من أختي”.
ولم تحظَ مريم بأخت مشجعة فقط، فقد منّ الله عليها بأسرة كان كل من فيها يشجعها للاستمرار في مجال الرسم.
تبيّن ذلك قائلة: “لله الحمد، والداي كانا يساعداني على تنمية هذه الهواية، فأمي حفظها الله، ووالدي، رحمه الله، لم يتأخرا يومًا في تزويدي بالألوان وأدوات الرسم والثناء على ما أنتج؛ تشجيعًا لي واعترافًا بموهبتي”.
أدوات فنية
تبنّت عائلة “الشملاوي” موهبتها منذ الصغر، وآمنوا بها كفنانة، لذا كان والدها – رحمه الله – يدعمها جدًا، وكان الممول الرئيسي لها بجميع الأدوات التي تحتاجها كفنانة، فمنذ طفولتها كان يأخذها للمكتبة دائمًا لتشتري الأدوات الفنية التي تحتاجها، خصوصًا في إجازة الصيف.
وهكذا سارت بقية العائلة على نهجه، فقد كانت هدايا أخواتها دائمًا عبارة عن أدوات تخص الفن، كالألوان والكراسات وكتب تعليم الرسم، وحتى التسجيل في الدورات.
عالقة بالذاكرة
الرقم واحد دائمًا ما يعلق بالذاكرة، يلتصق بجدرانها دون وعي منا، لذلك فما زالت “الشملاوي” تذكر أول لوحة احترافية قامت برسمها، وتصفها: “كانت لوحة على كانفاس بألوان إكريلك، وهي نتاج دورة فنية، عرضت ضمن المعرض الجماعي لفنانات القطيف على صالة نادي الفنون، والطريف في الأمر أنها لم تُبع وقتها، لكنها بعد مضي قرابة عشر سنوات بيعت مؤخرًا، في الشهر الماضي لمتذوق فني من مدينة الرسول الأعظم، أعجبته فقدرها واقتناها”.
دورات في دورات
مريم اليوم واحدة من الفنانات التشكيليات اللاتي يقدمن دورات فنية في الرسم، ولكنها قبل ذلك خاضت عددًا من الدورات، منها؛ دورة تقنيات الإكريلك في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالدمام، ودورة أساسيات الفن التشكيلي بمركز التنمية الاجتماعية بالقطيف، ودورة الرسم بالرصاص بمركز التنمية الاجتماعية بالقطيف، ودورة التصوير الزيتي والحداثة بمركز التنمية الاجتماعية بالقطيف، ودورة تقنيات التصوير الزيتي بمركز التنمية الاجتماعية بالقطيف، وورشات تقنيات الرمضانية لنادي الفنون بالقطيف.
مائة مختلفة
اللوحات التشكيلية لـ”الشملاوي” قاربت على الـ100 لوحة، تتنوع بين لوحات إكريلك على كانفاس أو رصاص وفحم على ورق، كما أنها ما زالت تحتفظ برسوماتها منذ كانت في مرحلة الروضة حتى اليوم.
بلا معارض
على الرغم من عدد لوحاتها وكثرة الدورات التي التحقت بها والأخرى التي تقدمها، إلا أن مريم حتى اليوم لم تقم معرضًا شخصيًا، لكنها شاركت بلوحاتها في معارض جماعية ومشتركة سواء داخل المنطقة أو خارجها.
اختفاء بعد العرض
كل ما اعتبرته جزءًا منك سيصعب عليك فقدانه، هذه مشاعر “الشملاوي” تجاه لوحاتها، حيث تصف تلك العلاقة بقولها: “لوحاتي جزء مني وغالية عليَّ، وأحاول أن أحافظ عليها قدر الإمكان، لذا أحرص على ألا أهديها ولا يقتنيها إلا من سيقدر قيمتها المعنوية لديَّ، فكل لوحة أرسمها تأخذ من وقتي ومجهودي وإحساسي الكثير”.
وتضيف: “رغم ذلك فقد تخونك الظروف، فتفقدين ما كان غاليًا عليكِ دون حيلة منك، مثلًا في بداياتي كنت أشارك بأي إعلان لأي معرض رغبة مني في الوصول، وبسبب قلة خبرتي في المجال أذكر أنني منذ ما يقارب السبع سنوات شاركت مع مجموعة من الفنانات في معرض أقيم في أحد الفنادق، وكان المنظم من إحدى مناطق المملكة البعيدة، وفعلًا أقيم المعرض، ولكن المفاجأة أن المنظم في نهاية المعرض (فص ملح وذاب)، اختفى مع لوحاتنا، وبعد محاولات كثيرة منا جميعًا دامت عدة شهور استرجعنا بعضًا من اللوحات فقط، فأنا على سبيل المثال شاركت بـ3 لوحات ورجعت لي لوحة واحدة”.
وتتابع: “أذكر أيضًا أنني شاركت منذ 3 سنوات في معرض، وأعيدت لي لوحتي منه تالفة تمامًا، وقد مزقت من الوسط وسكبت عليها مادة، مما أجبرني على رميها آسفة”.
وقالت: “أيضًا لا يخفى على الجميع أن بعض المعارض الجماعية يتم فيها رفض وقبول الأعمال تبعًا للمحسوبيات والصداقات والعلاقات الشخصية وليس تبعًا لجودة العمل الفني، مما كان يؤثر في نفوسنا سلبًا في السابق”.
وأوضحت: “كل هذا جعلني أقلل من مشاركاتي في المعارض وأهتم بمعرفة القائمين على التنظيم، وأتأكد أنهم جهات موثوقة قبل المشاركة”.
مدارس وخط خاص
مريم -حسب حديثها- تتبع المدرسة التعبيرية، وهو مذهب فني للتعبير عن المشاعر أو العواطف والحالات الذهنية التي تثيرها الأشياء أو الأحداث في نفس الفنان.
توضح ذلك: “في هذه المدرسة تكون الصورة الفنية هي إفراغ لما في أعصاب الفنان من شحنة عاطفية متولدة عن انصهار الوجود في خياله ثم إفراغه في فنه كما لو كان يقدم جزءًا من ذاته”.
أما لوحاتها، فتأتي المرأة فيها كعنصر أساسي، حيث تعتبر المرأة وملامحها خير ما يعبر عن المشاعر والحالات النفسية وانعكاس المجتمع عليها.
وعن الخط الفني الذي يميزها كفنانة عن قريناتها الفنانات في القطيف، تجيب: “أعتقد أن ما يميزني هو اللغة الجسدية التعبيرية، التي تبرز من خلال الوجوه وتركيزي على التعابير التي تظهر من خلال العيون والفم ليكون تعبيرًا عن الحالة، فملامح الوجه قادرة بشكل كبير على التعبير عن المشاعر والأحاسيس، والهواجس الشخصية، وعن شغف المرأة أو حزنها أو ألمها وأحلامها”.