وقف بجانب أمه يريد الحديث معها لكنها لم تُجبْه!
أُقْفل تاريخ أحداث حياته بموتها، حفر في قلبه خندقًا عظيمًا وضع فيه ذكريات أمّه.
من له المقدرة على تدوين أحداث إنجازاته غير أمّه؟ وقف مخاطبًا والدته قائلًا: ما تعلمته بين ركبتيك صنعني.
تمت أحلامي على يديك. واكتملت أنصبة نجاحاتي تحت أوتاد خيمتك المضروبة بحب.
وإن تقوّس ظهرك فلأن انحناءة منك علمتني مجلدات من الحياة.
الأم صانعة الأبجديات، مُغدِقة بسخاء، عاشقة بوِدَاد، برّها مَزِيَّة الكرام، وعقوقها أبشع الفِعال.
نالت حظْوَة عظيمة، وسُؤْدَدًا عجز عن مُضاهاته الجهابذة من الأشراف.
منحت المعاني الجميلة في الحياة، وأسْدت المعروف فبلغت شطآن الحب بخلود.
علّمت طفلها اسم الشجر والزّهر، وأرشدتُه إلى سبل الأمن والسلام، فأزهر غصنًا جميلًا، وتغنّى بتهجئة اسمها.
فلا عجب أن ترى من أحدهم الإِطْناب في الحديث عنها بحب وارف. ورفض اقْتِضَابٌ محاسنها، أو وضْعها بجدولة زمنية لأنها كل العالم عنده.
وإذا حاولتي أيتها الأم أن تجري اتصالًا هاتفيًا لأحد أبنائك فسوف تفرحين بالمسمّى الذي وضعه لك بجانب رقم هاتفك ربّما (الكون كلّه) أو (ست الحبايب) وتطُول تلك القائمة الجميلة بمسميات تشعّ بهجة مثل:
(أول حبّ) (أقدامها جنة) (أغلى الناس) (جنتي) (حنان الكون).
إنها علاقة الورد بأكليله، والابتسامة بحديث الشفاه العذبة.
لقد اكتشفت مؤخرًا أن المرأة لا بد أن تكون أصلًا لأحد الفروع حتى لو زارها العقم؛ لأنها الخالة الحنونة أو العمّة العطوفة.
المرأة في مجموعها إنسان يمتلئ عاطفة جيّاشة بالأمومة وخاصة عندما يتكرر مشهد الطفولة أمامها حاشدًا طاقات براءةٍ ملفتة للجمال المتدفق عند منعطف اللغات.
والعجيب في الأمر كون الابنة أمّا لأمها عندما تبلغ الأم مرحلة عمرية زمنية تصبح عاجزة لتقوم ابنتها بنفس المهام التي قامت بها الأم سابقًا بل أكثر وأشدّ صعوبة، متمسكة بأهداب الوفاء، تعزف ألحانًا لم يسمعها قلب محبٍّ من قبل. وقلبها يناشد الكون:
تمسّك بأمّك كأنك لم تعرف غيرها من البشر.
يقول مصطفى صادق الرافعي:
(إن الطفل يقلّب عينيه في نساء كثيرات، ولكن أمه هي أجملهن وإن كانت شوهاء، فأمه وحدها هي أم قلبه، ثم لا معنى للكثرة في هذا القلب، هذا هو السر؛ خذوه أيها الحكماء عن الطفل الصغير).
فهنيئًا لمن حلّق في أجواء حب والديه وتعلق بسقف برّهما، مصارعًا قوة شيطانية تزيّن له التكبر عليهما وترمي بشرر العقوق حوله.