حديثي مع ذاتي

إلى ذاتي الهاربة من هموم الحياة تنحني جراحي

في فجر ساكن والساعة تزحف نحو الرابعة، ألقيت على ذاتي آخر نظرة وأنا متشوقة ليوم جميل، حيث وقفت في مكاني متمايلة ومتجهة نحو الباب لأودع صديقي الوفي الليل، فيا ترى ما سر سعادتي مع فجري هذا؟ ومع شهقة النهار أقول لحبيبتي القطيف أهلًا وسهلًا، مع دفقة عطر من إحساسي المرهق الذي ينفعل بالجمال.

اعتليت منبر أفكاري ماسكة بين أصابعي أحاسيس قلمي، أداعبه باشتياق مع كل حرف وأسأله ما لون حبره، حيث أتخيل وأنا أكتب أن سربًا من الطيور تطير وتحوم حولي، بأصواتها المغردة التي تملأ كياني، مسكت يدي بكتاب حتى لحظتي هذه، لا أعرف من صاحب الكتاب، فتحته في الوسط فسقط نظري على مقولة الشاعر الهندي طاغور: “لم أعِ لحظة أتيت فيها الحياة، إلا أنني فتحت عيني على هذه الأرجاء المجهولة كما تتفتح زهرة الغاب في قلب الليل”.

كم وددت أن أكتب عن ذاتي وكم أمسكت بالقلم ثم تركته، كان قلمي كالجواد الحر يأبى على ذلك، وسلمني لكسل كبير لأرجئ الكتابة لوقت آخر لا أعلمه، حملت ورقتي وكتبت ربما مقدمة ساذجة ولأنه لم يكتب لي الاختلاء بنفسي، فوضعت كتيبي المتواضع “بنت القطيف” بجانبي وأنا دائمًا سعيدة وفخورة لأنني قطيفية، ولأن من حولي قطيفيون، لمحت عيني تعانق كل شيء، ومجرد أن ارتشفت قهوتي، عادت إلى جسمي رجفته وإلى عقلي خلوته، مع أفكار كثيرة احتلتني وسكنتني في حديثي مع ذاتي، وقد لا تسعفني لحظة أحكمت قبضتها عليَّ، وقد لا تهبني مهلة اختيار نصي جيدًا.

أشعر بنجاحي عندما أهدي البعض وردة لأجعلهم يتنسمون عطرها، وأشعر بذات النجاح لمن يجعلني أُسمع الدنيا أنيني ووجعي، وأيضًا عندما أكتب عن شخص يؤثر بداخلي، فإن لم أجد من يقرأني فإنني كمن يصرخ وحده في مكان لا يسمعه أحد، يا عزيزي القارئ لعلني أرهقتك بضجيج فكري، ولقد شعرت بالذنب تجاهك ولعلك تكون رهينة روعتك.

قرأت ذات مرة، أحد المواقف المؤثرة عن سيدة تركها زوجها مع طفلته الرضيعة، التي تبلغ من العمر سبعة أشهر، وكان يعطيها النفقة ولا يسأل عنها وكبرت تلك الطفلة حتى وصلت إلى عشر سنوات، وكان عند الطفلة قطة في البيت وكانت تناجيها: “يا قطة أنت لكِ ماما وأنا لي ماما ولكن ليس لك بابا مثلي يسأل عنك”، وهنا عقوق الآباء.

حين يجتمع الألم مع الحب مع صور مبعثرة، يولد نص فيه مشاعر صادقة مع حروف مبعثرة وبقع حبر، رغم مشاعري المشوشة وحكاية خفيفة على أثرها تغير طعم قهوتي، مع رؤى منسكبة عطرًا وزهرًا في أروقة القطيف، وهنا أهمس ما أحلى المرء حرًا، ما أحلاه وهو يعلن الحب والسلام بوجعه وبحريته، لنحلم ونتخيل السلام والحب بصمت.

قرأت بعض المقتطفات من خطابات الزعيم الأمريكي الأب الروحي لثورة السود في أمريكا مارتن لوثر كنج وتستوقفني كل كلمة هنا وحتمًا أنت ستقف عند بعضها إن لم أقل كلها:

• إني أومن بجسارة بأن الشعوب في كل مكان يحق أن يكون لها ثلاث وجبات يوميا: للجسم تربية وثقافة للعقل شرف ومساواة وحرية للروح.

• لو جلست لأرد على الكم الهائل من الانتقادات لما تبقى لي وقت للعمل البنٌاء.

• إنه من الخطأ انتهاج وسائل غير أخلاقية لتحقيق أهداف أخلاقية.

• أمم آسيوية وأفريقية تخطو خطوات عملاقة نحو تحقيق الاستقلال، ونحن نحبو للحصول على فنجان من القهوة على مائدة الغذاء.

• لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنيًا.

يا عزيزي القارئ، بعد قراءتي لتلك المقتطفات سكنت بجسدي برودة لم يسبق لي أن أحسست بها من قبل، ضحكت وبكيت في ذات الوقت.

حينما تهاجم طيور الإبداع أكثر ما نخشاه أن نكون في مرحلة لا يتعامل فيها المبدعون إلا مع من كان اسمه كبيرًا، وقادرًا على انتشالهم إلى المجد كي يتصورونه، أو أن تكون المصلحة هي الرابط بينهم، رغم أني متأكدة أن مبدعي القطيف هم منبع للطيبة والكرم والإبداع، حيث الظروف أحيانًا تسرقهم، ولابد من تذكيرهم بأن هناك يدًا أخرى تمتد بحاجة إليهم، علينا فقط أن ننفض الغبار عن أحاسيسنا التي قد ترهقها قسوة الحياة.

عادة الشعراء أن يقفوا على الأطلال، أما قلمي الحر وبفخر يقف في بستان القطيف الأخضر، ليكتب دائمًا عن القطيف، وسبق أن قلت أكثر من مرة إن الكتابة عالمي الآخر، الذي أخفيه سابقًا عن الآخرين لخصوصيته الجميلة، وكنت أهرب إلى عالم من صنعي ولم أكن لأحلم أن مقالاتي ستلقى اهتمامًا من البعض، وكل يوم أشعر كم أنا سعيدة ومحظوظة لأني تمسكت بحلم الكتابة، الذي يشعرني بفرح طفولي ودموع وحزن وبشحنات تدفعني إلى الأمام، وتصيبني بنشوة خاصة اعتلت جوارحي نشوة زادت عشقي للقطيف، حيث يتهمني البعض بأنني قطيفية الهوى، وليتني أنال هذا الشرف الرفيع وهل هناك صحراء لا تتشرف بالمطر، وإن اختلطت مشاعري على البعض فلا بأس، حيث أعتبر حبي لمدينتي كنزًا من السماء، وسأظل مُدينة لأرضي، التي فتحت ظلالها وكتبت أجمل خواطري وأعلنت انتصار حروفي في داخلي، أخشى الاستطراد فأحدثُ فتنة.


error: المحتوي محمي