بوابة النسيان ومتلازمة فرط الذاكرة

صديقتنا “سهى” معلمة رياضيات تمتلك ذاكرة رائعة، تسعفنا ذاكرتها كثيرًا في إنجاز بعض المهام المعلّقة أو حتى في مراجعة الأحداث السعيدة في حياتنا.

ذاكرتها نشطة _ ببركة ما شاء الله_ وفيض قوتها يشعرنا بالحصانة التاريخية لبعض المواقف الحياتية.

وطالما اعتمدتُ على “سهى” كأرشيف مُسعف أعود إليه من أجل توثيق بعض المهام في أعمالنا المدرسيّة.

ولكنني متيقنة بأنني بحاجة إلى بوابة كبيرة اسمها النسيان كي تحارب معي جميع الأحداث المؤلمة والمحرجة، أدْخُلها فأزجُّ بكل حدث يرهقني أو ذنب يقلقني في هذه البوابة.

ولا شيء يفوق سعادة من َقذَفَ الذنوب من ذاكرته، وهمّش المعاصي، مفترشًا بساط التوبة لله تعالى، لأنه يعلم أن الله تعالى سوف يتلقاه بالحب، فهو أكرم من أن يرد أحدًا طرق أبواب رحمته، “كلنا خطاؤون، وخير الخطائين التوابون”.

وما أجمل الاعتذار لله تعالى! الذي يأخذ بعدًا مختلفًا عن الاعتذار للبشر، فربما لم يقبل الزوج اعتذار زوجته، وربما لا تغفر الأم صنيع ابنها، لكن رب العباد يستبشر بقدومك، ويباهي بك الملأ الأعلى ثم يُمهّد لك القبول عند أهل الأرض.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ}، وأعظم فضل للتوبة أنّها سبب لمحبة الّربِّ للعبد التائب.

فأسقط من ذاكرتك ذنوبك التي تبتَ منها ولا تهتم بما يقوله الآخرون عن ذنبك الماضي، وأدخلها أيضًا في بوابة النسيان مادام الميثاق مضروبًا بينك وبين ربك.

لذلك يُعتبر النسيان دوحة غناء وهبها الله تعالى للإنسان ليزيح الألم عن كاهليه ويمزّق صفحات من الماضي كان لا يمتلك فيها أدوات كافية لإبراز قوته.

“كن قويا وابتعد عن سقطات الماضي”، عبارة تغنّى بها الكثير من المؤلفين والكُتّاب وأسعدوا بها الكثير من الناس وأسعفوا بحديثهم حالات كثيرة دَاخَلها اليأس.

وكما يشتكي البعض من سوء ذاكرته، فإن البعض يتذكر كل شاردة وواردة ويعتبر ذلك حالة مرضية نادرة تسمى متلازمة “هايبرثيميسيا” (Hyperthymesia)، تجعل الشخص المصاب بها يتذكر كل لحظة، ذاكرته يقظة على الدوام ترفض السبات وتقاوم النسيان، له القدرة على استعادة الصور والمعاني الذهنيَّة الماضية، يُحلل شريط حياته بكل تفاصيله، ولا يغفل شيئًا مهمًا مرّت السنوات.

ومن نعم الله تعالى أن عدد المصابين بهذا المرض لا يتجاوز عشرين شخصًا أو أقل.

النسيان عملية فسيولوجية مرتهنة بقدرة جبّارة تقود الإنسان لمرافئ الأمان من تسلّط الذات المُهيمِنة.

ومن عجائب الذاكرة الإنسانية “الذاكرة الانتقائية”، ويُشير مصطلح “انتقاء” إلى غربلة المعلومات لأجل الاحتفاظ بالمهمّ منها.

إذ تقوم الذاكرة الانتقائية بمحاولة لحجب أي شخص أو حدث مزعج يحاول الولوج إليها بشكل نشط، فيصرعه سيل من الإحساس اللاشعوري ويرفضه العقل الباطن محاولًا شطب كل التفاصيل الملتصقة بهذا الحدث من قريب أو بعيد، ويصنفه بعض علماء النفس بـ”النسيان المقصود”، وهذا أيضًا من نعم الله تعالى على الإنسان ورحمة منه تعالى، في منع تخليد المواقف السيئة في الذاكرة وحظر للأقدار المؤلمة وتعطيل لمسيرتها في سبل صرف الألم المُنْهك.

ما أجمل حكمة عبد الرحمن منيف في حكاية النسيان إذ يقول: “لولا النسيان لمات الإنسان من كثرة ما يعرف، لمات من تخمة الهموم والعذاب والأفكار التي تجري في رأسه”.

نبتهل لله تعالى صرف أحزاننا وهمومنا، كما نأمل من ذاكرتنا أن تَضْعُف ويصيبها الوهن تجاه الأحداث المؤلمة التي تجتاز طرقها دون أن تُطيل المكوث، فلا تلبث مُغادِرة دون عودة.


error: المحتوي محمي