
فُرض علينا الصيام عينًا بضوابط شرعية، متى نمسك؟ متى نفطر؟ عن أي شيء نمتنع؟ عقوبات عند المخالفة قد تصل إلى تعزير جسدي، أحكام يلزمنا التعبد بها.
ومع أن الصوم واجب شرعي وركن إسلامي، إلا أنه يعالج حالات ليس لذاته بل تتعدى إلى سلوكيات الصائم نفسه، بمعنى يهيئ لمفاهيم أخرى قد لا نصل إليها إلا به.
لا نمتنع عن الأكل والشرب لأجل الصوم فقط وإن كان هو الاصل والوجوب، لكن هناك أمورًا تعقبه تعني جميع حياة الإنسان الفكرية والمادية والمعنوية والأخلاقية والعبادية، نذكر بعضها مختصرًا:-
أولًا: تطوير الذات، يتجلى هذا من التوجيهات المحفزة والتي لها خصوصية، مثلًا من قرأ فيه آية كان كمن ختم القرآن فيما سواه أو فيما معنى ذلك، وإن كان الظاهر تعظيم الأجر والحث على زيادة القراءة، إلا أنها أيضًا دعوة صريحة لتعلمه وتنمية أفكارنا ورفع مستوى الذات عندنا.
من منا يقرأ القرآن بتمعن ولا يشعر بإحساس نفسي وجسدي وتوسيع معارفه ومداركه؟ من يكرر القراءة بوعي كأنه تخرج في أرقى الصروح العلمية لعظيم ما تحويه آياته، وقتها يقول: بالصوم نلت شرف العلم وعظيم الأجر، ما كنت أنالها في غيره من الشهور.
ثانيًا: الانضباط، الصوم يعطينا دروسًا في ضبط الوقت، فلو أكلنا بعد المنع أو سبقنا الأذان عمدًا بدقيقة واحدة فسد صومنا وأُثمنا وحُمّلنا الجزاء، الوقت قيمته ذهبية، تنظيم المأكل والمشرب ما هو الأصلح عند إفطارنا تناوله وما يؤذينا منه فنتجنبه، لنتعلم المعالجة عند فراغ المعدة حتى خارج شهر رمضان، إنها وصفات طبية مضمونة، حديثنا ونقلنا أن نكون صادقين، لو نقلنا أو قلنا كذبًا عمدًا في حالات يبطل صيامنا، ما نتعلمه اليوم نتعامل به غدًا، حتى نقول أغنى عنا صيامنا.
ثالثًا: تنقية الروح ووحدة المجتمع وترك الأنا، نرى ذلك واضحًا في بعض الأدعية المعنية فيه، منها الدعاء المأثور وهو منظومة مطالب متكاملة للأموات والأحياء “اللهم أدخل على أهل القبور السرور، اللهم اغن كل فقير”، كل أو ضمير الجمع، هل فهمنا ماذا تعني؟ أليست لمن نعرف ومن نجهل من نحب ومن نكره؟ دون طبقية أو طائفية أو مذهبية أو تخصيصية، ويمكن تتعدى بعض عناوين هذا الدعاء لغير العاقل (أهل الاختصاص أعلم بذلك) عندما نقول: “اللهم أشبع كل جائع”.
هل نعي الدرس الأخلاقي لهذا البعد؟ هل أثرت هذه المعاني فينا وأبعدت عنا الأنانية والحقد والحسد والكراهية تجاه الآخرين؟ أو نقرأ بأعيننا دون عقولنا إذا كنا كذلك، ما أغنى عنا صيامنا؟
رابعًا: من سنوات رأيت وقت الإفطار في الشارع امرأة باكية، وكان الوقت هجيرًا، لو رآها من قلبه أشد قسوة من الحجارة لبكى لحالها، موقف صعب المشاهدة، الصيّام على موائد الإفطار وإفطارها دموع ممزوجة بشجى، إلى الآن كلما تخيلت أعتصر ألمًا، أدخلتها زوجتي البيت، اتصلت بزوجها ليتضح أن سبب المشكلة بين الأب وأحد الأولاد في أمرٍ تافه لا يستحق الذكر، وعقابًا طُرد الولد وطُردت الأم تباعًا دون ذنب أو تدخل منها إلا أنها أُمه، وكان ماسكًا سكينًا، لطفًا من البارئ لم تُصب بسوء، هذه أخلاق إنسان، فضلًا عن أن تكون أخلاق صائم؟ ما أغنى عنه صومه؟
خامسًا: لو همسنا في عقولنا وتساءلنا ما هي أولويات اهتمامنا في هذا الشهر؟ نجد البعض بدلًا من أن يتعلق قلبه بالعبادات والقرآن وأهداف الصوم، متعلق بأكل وزيادة نوم.
إذا دخل شهر رمضان عنده مصيبة وعند زين العابدين عليه السلام خروجه مصيبة، ولكن فرق بين المصيبتين، مصيبة زين العابدين لأنه استقبله معشوقًا بقلبه وعقله فرحًا بأهدافه السامية عارفًا بها، ففراقه مصيبة حقيقية عنده وصعب عليه ومصيبتنا استقبلناه ببطوننا دون قلوبنا وعقولنا وغيبنا تلك الأهداف، فمتى نفرح بفراقه لنأكل متى شئنا ونتلذذ بما عنه مُنعنا؟ فما أغنى عنا صيامنا؟
سادسًا: لا خلاف أن تكون هناك جمْعات للأصدقاء وزيارات متبادلة في هذا الشهر، بل هو أمر طيب ومحبب وبعضها مندوب إليه، ولكن ليس على حساب مبادئ الأخلاق؛ صلة الأرحام، تحسس هموم الآخرين، التخفيف عن المديونين، قضاء حوائج المحتاجين، وإلا ما أغنى عنا صيامنا؟
سابعًا: الصوم يعلمنا الصبر المادي لنحس بمعاناة الضعفاء وما يتحملون من ضيق العيش، والصبر المعنوي بالعفو عن الجهلاء والمعتدين، والصبر عن المعصية وعلى الطاعة، هناك رجال طلقوا ملذاتهم، اعتكفوا في المساجد، خرجوا من دنياهم لمرضاة خالقهم، صيّامًا قيّامًا.
علينا جميعًا أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الشهر الكريم ويطالب بحقوقه، هل أنهينا خصامًا؟ هل تفقدنا جارًا؟ هل سألنا رحمًا إن كان محتاجًا؟ هل قضينا حاجةً؟ هل مسحنا عن يتيم دمعةً؟ هل عفونا تفضلًا؟ هل أوصلنا عن موتانا صدقة؟ إذا لا، فما أغنى عنا صيامنا؟
نسأل الله التوفيق للجميع في هذا الشهر لفعل الخيرات والمغفرة والرضوان والفوز بالجنان.