
ابتدأ علي (ع) وصيته المباركة بوصية من وصايا القرآن العظيم، فقال (ع) لولديه الحسنين (ع): “أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي، ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون”.
ومن خلال هذه الكلمات النورانية يريد منا (ع) أن نستصحب التقوى في حياتنا، ونستصحب الاستسلام لأمر الله سبحانه، حتى إذا جاءنا الموت نبقى على إسلامنا، وتقوانا، ولذلك قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
وقوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، معنى ذلك: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، وقد يظن البعض أن الالتزام بالدين شيء يسير ولا يستحق هذه المبالغة في صعوبته، فما أيسر أن يؤدي الإنسان صلواته المفروضة وصوم رمضان ويتجنب المحرمات ونحو ذلك، وهذا ظن خاطئ ناشئ من قصور في فهمِ معنى قولِ علي (ع)، إذ ينبغي الالتفات إلى أن كلامه (ع) عندما عبّر بلفظ “الإسلام”، وهو أوسع من الأحكام الشرعية كالصلاة والصوم والحج والزكاة وأوسع كذلك من بقية الواجبات، والمحرمات المذكورة في الفقه، فمعناه واسع جدًا، إذ يشمل كل ما تضمنته الرسالة السماوية من العقائد والفقه والأخلاق.
فالتمسّك بالدين يعني الالتزام بكل هذه التفاصيل والجزئيات التي يتعرض الإنسان فيها للابتلاء دائمًا؛ لأن الثبات على الدين يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة، بحيث لا يخضع للضغوط والإغراءات من أي جهة كانت، سواء كانت من جهة النفس الأمّارة بالسوء والشهوات، والميالة للعب واللهو واللذات، فتضغط عليه للاستجابة لها حتى لو كان فيه تضييع لدينه وآخرته، أو كانت الضغوط من جهة المجتمع اتباعًا للأعراف والثقافات المتداولة في الملبس أو المعاملات مع الآخرين.
وقد كان الكثير من أصحاب الأئمة يظنون أنهم قد أدوا ما عليهم وأنهم نجحوا في أداء ما هو مطلوب منهم، لكن الإمام السجاد (ع) أثبت لهم توهمهم في ذلك بتجربة عملية تتعلق بطاعة الإمام الذي أمر الله بطاعته فيما تحب وتكره، روى الكليني بسنده عن الإمام الباقر (ع) قال: “قال أبي يومًا وعنده أصحابه: من منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفه فيمسكها حتى تطفأ؟ قال: فكاع الناس كلهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إياك عنيت إنما أنت مني وأنا منك، بل إياهم أردت، قال: وكررها ثلاثًا، ثم قال: ما أكثر الوصف وأقل الفعل، إن أهل الفعل قليل، ألا وإنا لنعرف أهل الفعل والوصف معًا، وما كان هذا منا تعاميًا عليكم بل لنبلو أخباركم ونكتب آثاركم، فقال (ع): والله لكأنما مادت بهم الأرض حياءً مما قال، حتى أني لأنظر إلى الرجل منهم يرفضّ عرقًا ولا يرفع عينيه من الارض فلما رأى ذلك منهم قال: رحمكم الله فما أردت إلا خيرًا، إن الجنة درجات فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم، قال: فوالله لكأنما نشطوا من عقال”.
ختامًا أقول: أخي الكريم كن متوازنًا، فأنت بحاجة إلى دينٍ قويم، وآخرة تنْجو بها من عذاب الله، ودنيا تُقيم بها عِوَجك، ولا يكن ذلك إلا بالعمل المتوازن، قدد يأتي كسولٌ وينسى مستقبله، ودراسته، ويعيش أجواء رائعة خلال فترة الكسل، وبعدها يجد كلّ رفاقهُ معهم شهادة، وهو لا شهادة، ولا مصْلحة، ولا شيء لديه، ولا بيت عنده، وغير متزوّج، علمًا أن كلّ رفاقه تزوَّجوا، وإذا به يعيش في حالة من الاكتئاب، هذه في أمور الدنيا فكيف يكون المقصر يوم القيامة، إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا.
——
نسأل الله سبحانه أن يتقبّل منّا هذا القليل، عسى أن يجعله بمثابة مجذافٍ في السفينة لمن أراد النجاة، وأن يغفر لنا ذنوبنا.