لا غربة في طلب العلا

رؤية من خلال عدسة.. في رحلة جمعت بين الجانبين: السياحي، وحضور حفل تخرج لمبتعث من أفراد الأسرة، ومشاركته فرحة التخرج؛ سجلت العين ما ارتأته.

ففي مدينة “دندي” بالتحديد، المدينة الواقعة على الساحل الشرقي الإسكتلندي بالمملكة المتحدة، في هذه المدينة المتميزة بجمال الطبيعة وسحرها، وبأبنيتها الأثرية القديمة التي يعود تاريخها إلى عدة قرون، في “دندي” مدينة العلم التي تعتبر مقصدًا للطلاب من مختلف أنحاء العالم، في هذه المدينة… اجتمعوا… من العراق، ومن سوريا، ومن فلسطين، ومن الأردن، ومن مصر، ومن ليبيا، ومن كردستان، ومن الهند، ومن السعودية… شباب واعد طامح إلى نيل أعلى المراتب العلمية بمختلف التخصصات، في مجال الطب والهندسة وغيرهما، منهم المبتعث من حكومة بلاده، ومنهم المقيم مع أسرته منذ سنوات عديدة، جمعتهم الغربة في بلد حضاري، وبيئة علمية مرموقة، واستطاعوا – رغم اختلاف التوجهات والمعتقدات – أن يمدوا جسورًا من التواصل العلمي والتبادل الثقافي بإخاء ومحبة وسلام ووفاق، لا تخلو اجتماعاتهم من المرح، مع اكتساب المعارف والمهارات، وتبادل الخبرات في الوقت نفسه.

تواجدوا في هذا البلد؛ ليعرف بعضهم بعضًا، وما التباين بينهم إلا لتشكيل هوية كل منهم، ومقياس التمايز بينهم عند ربهم هو التقوى، كما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 14]…

ومن المحطات الملفتة التي توقف اللحظة الزمنية لتبرز من خلالها صورة معبرة عن حقيقة مشاعر هؤلاء المغتربين، يوم حفل التخرج، فهاهو زميل لهم يُحتفى به مع الخريجين، الطبيب السعودي المبتعث لنيل شهادة الماجستير، فتراهم ملتفين حوله؛ مؤازرين ومهنئين يقدمون له الورود والهدايا التذكارية، وهم بذلك يؤكدون على أن الائتلاف بالأخوان هو رأس النجاح.

وفي وقفة مع مبتعث سعودي آخر جاء هذه البلاد لنيل شهادة “الدكتوراه” في طب الأسنان، وهو أحد أقطاب تلك المجموعة، فنرى عن قرب نموذجًا مشرّفًا للشباب الواعي، المثقف، الملتزم بدينه ومبادئه، الآخذ مِنْ الثقافات ما يناسب مجتمعه، وقيمه، والمحقق للإنجازات والمراكز الأولى في البحث والاكتشاف!

ولِمَ لا يبدع ويحقق الإنجاز؟ وهو من أتيحت له الفرصة بوجوده في بيئة علمية وتقنية للاطلاع، واكتساب المعرفة، ومواجهة كل التحديات والعراقيل التي قد تعترض طريقه بصبر وثبات، متجنبًا كل أمر يؤخذ عليه أو يضره، واضعًا الأمور في نصابها الصحيح، فهو لم يأتِ إلى هذا البلد إلا ليتزود بالعلوم والمعارف، ويأخذ من الآداب أحسنها ، ومن الأخلاق خيرها وأفضلها، يقوده الأمل إلى نيل كل ما يرفع من مستواه المهني ويطوره؛ ليتحقق النفع والخير للبلاد والعباد، وهو بذلك يعطي الصورة الحقيقية للإسلام وللمسلم الحق.

تلك رؤية التقطتها عدسة العين؛ لتعكس من خلالها بعض ما حققه برنامج الابتعاث من أهداف واضحة للعيان.

وها هم اليوم أبناء الوطن وبناته يحققون الإنجاز تلو الإنجاز ويحصدون الجوائز ويهدون شهادات تميزهم للوطن. بوركتم أيها الشباب، وزادكم الله من هداه؛ ما يوصلكم إلى التوفيق الدائم، ورحم الله الإمام الشافعي حين دعا للتنقل والترحال في أبياته الخالدة التي يقول فيها:
تغرب عن الأوْطانِ في طَلَبِ العُلى
وسافِرْ ففي الأسْفارِ خَمْسُ فَوائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ واكتسابُ مَعِِيشَةٍ
وعِـلْـمٌ وآدابٌ وصُـحْـبـةُ مـاجِـدِ

من أجل العلم وفي سبيله تطوى المسافات الشاسعة، ومتاعب السفر وشدائده تُحتمل لنيل ما تصبو إليه النفس من علو ورفعة.

ما طرحته حُرر منذ خمس سنوات تقريبًا وكان حبيس الأدراج، أطلقته ردًا على حوار دار حول مخاوف الأهل من غربة الأبناء في طلب العلم، مخاوف قد يكون لها مبرراتها لديهم، والتي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.


error: المحتوي محمي