تكاد لا تجلس مع أحد إلا وتحدث بمرارة تصل حد الوجع – أحيانًا – عن مصائب وبلايا ألمت به، وأحالت حياته من النعيم إلى الجحيم في طرفة عين، تكاد كل القوانين العقلية، والمنطقية، والعلمية تذوب أمام قناعاته، وخياله، ومسيرة حياته، يشرح لك التفاصيل كما يراها، ويسلم بها وكأنها قرآن منزل لا يشوبه ريب طرفة عين أبدًا.
يذكر نعم الله المتتابعة عليه بلا حساب، والتي تحولت إلى نقم تتوالى وبلا انقطاع.
هذا يتحدث عن مرضه، وآخر عن خسارته المالية، وآخر عن تعليمه، وآخر عن ذريته وأولاده، وآخر عن رزقه، وآخر عن زوجته، وآخر عن علاقاته وأصدقائه، وعلى ذلك فقس الكثير.
جميع هؤلاء مطمئنون بأن حياتهم تدمرت ومستقبلهم انتهى نتيجة أعين الحساد من الأرحام أو الأصدقاء أو الجيران أو المنافسين وسواهم.
هل أن ما ذهب إليه هؤلاء الناس من ظنون حقيقة أم خيال؟!
للإجابة عن هذا التساؤل لا بد لنا من تحديد معنى الحسد بدقة، الحسد مرض نفسي خطير يصيب الإنسان فيجعله يتمنى زوال النعمة عن الغير بأي وسيلة كانت، وهو شر مطلق ليس له زمان ولا مكان ولا بيئة خاصة، تجده في العلماء، والأتقياء، والأطباء، والمهندسين، والمعلمين، والتجار، والفلاحين، والكسبة وسواهم، لا يرتبط بعمر ولا بتربية ولا بجنس ولا بدين، يتوارثه البعض حينًا، ويأتي بالاكتساب أحيانًا كثيرة، لا يرتبط بمهنة، ولا بأشخاص، ولا عوامل فسيولوجية في أصل التكوين.
ينقسم المجتمع ثقافيًا إلى عدة أقسام في نظرتهم للحسد، هناك شريحة تنسب كل فعل حسن أو جميل أو نظرة بابتسامة على أنه حسد محض دون متعلقات آو آثار تابعة، وتعد الحسن اللفظي أو العملي هو تمنٍّ لزوال النعمة، وبالتالي لو قلت لعريس ليلة زفافه ما أجملك! أو ما أطيبك! تكون قد حسدته، والبرهان هذا يفوق السماء علوا فهو من المسلمات لديهم، وينشرون ذلك في أوساطهم كحقيقة مسلمة ومتوارثة ويربون أبناءهم عليها.
والحال أن جل هؤلاء مرضى يعانون المشكلة في نفوسهم، ويسقطونها على سواهم تهربًا وخسة واستخفافًا بالآخرين لا أكثر، وأما القسم الآخر منهم فهم ضحايا آبائهم، وأمهاتهم، وإخوانهم، وأسرهم المريضة التي غيّرت فطرتهم السليمة بنشر هذه الثقافة السيئة فيهم، وبالتالي فجميع هذه الشريحة سلبيون تجاه الناس والمجتمعات.
ومن الناس من ينفون الحسد مطلقًا ويرجعون كل الأقدار للمنطق والتخطيط المنظم والعقل، وبالتالي يعتبرون الحسد كلمة لا وجود لها على الواقع وإنما عفا عليها الدهر من قرون ومازال المتخلفون من الناس – في نظرهم – يؤمنون بها، كما يَرَوْن أن المجتمعات التي تؤمن بالحسد جاهلة، ومتخلفة، وبسيطة، يَرَوْن أن الإنسان بعمله وقوله فقط يحدد مصيره وأقداره.
وهذا القول لا يستند حقيقة لدليل علمي ولا واقعي، ولكنه يميل إلى الحداثة الفكرية المطلقة التي تعتبر ذلك حرية فكرية خاصة، والحال أن هذا التفكير لا أصل له تحت أي عنوان، فلا الدين ولا الواقع يقر لهم بذلك، ومن الطبيعي إذا تعارضت قناعات المرء مع كتاب الله وروايات محمد وآل محمد ترمى قناعاته بعرض الحائط مهما بلغ من مكانة علمية أو ثقافية، القرآن واضح الدلالة في الحسد {ومن شر حاسد إذا حسد}.
وهناك شريحة ثالثة من الناس تفحص الأحداث، وتبحث في التفاصيل، وتطمئن للمقدمات، وتتبع العلم والمنطق والعقل والعاطفة لتخرج بقناعة خاصة بالإثبات أو النفي، فهم يقرون وجود الحسد ولكنهم لا ينسبون كل شيء له، وإنما من خلال المقدمات يصلون إلى النتائج ويثبتون من خلال البرهان العقلي العلمي صحة آرائهم بعد فحص وتدقيق كبيرين.
قابيل قتل أخاه هابيل حسدًا وقد ورد ذلك في القرآن الكريم، وإخوة يوسف ألقوا أخاهم في الجب ليموت حسدًا له، وكثيرٌ من الأصدقاء رموا أصدقاءهم في وحول مظلمة وقذرة حقدًا عليهم وحسدًا لهم، وعلماء أسقطوا بعضهم، وتجار، وفلاحون وسواهم . والتاريخ ملء البصر في إثبات ذلك، فكم من عداوات ونزاعات وضغائن انتشرت نتيجة له، فهو من المسلمات العقلية والنقلية لدى الواعين والجهلاء معًا.
صحيح أن هناك أطهارًا كرامًا وعظماء اتهمهم الناس جورًا وعدوانًا بالحسد والحقد، وهم بريئون براءة الذئب من دم يوسف، غير أن هذا الاشتباه لا ينفي وجوده في فئات أخرى مطلقًا، وعليه؛ يكون هذا الصنف من الناس أكثر دقة، وأصح تحليلًا، وأوسع فكرًا، ويحكي الواقع بأبعاده وتجلياته.
من العجيب هنا أن بعض المحسودين على نعم الله عليهم هم محل ابتلاء من الله حقيقة، بمعنى أن المال مثلًا متوفر لديهم لكنهم مرضى في صحتهم أو ما شابه، غير أن الناس تحكم بظواهر الأمور تاركين الخفايا عنهم تمامًا.
لو انشغل الناس بأنفسهم {وفي أنفسهم أفلا يبصرون}، واستعاذوا بالله من الشيطان الرجيم، وصلوا على محمد وآله في كل مرة تنقبض فيها قلوبهم على نعم الناس، لهذبوا أنفسهم وأرواحهم شيئًا فشيء، وأوصلوها مرحلة الكمال والجمال، غير أن خضوعهم لهوى النفس وعدم مجاهدتها جعلهم فريسة الهوى والشيطان بامتياز.
وما نراه الآن من تفكك وتسقيط وعداوات وانقسامات وحروب نفسية في بعض المجتمعات المعاصرة ما هو إلا إفرازات طبيعية لهذه الأمراض النفسية التي أفسدت البلاد والعباد والحجر والمدر.
إن الطاقات السلبية في نفوس الحساد كفيلة بتحويل النور إلى نار وصهر الحديد وذوبان الحجر، بخلاف الطاقات الإيجابية في نفوس الأصحاء الكفيلة بتحويل الحياة القاسية – حقيقة لا اعتبارًا – إلى واحة غناء، مليئة بالخمائل والأزهار، والأحلام الوردية التي تسعد النفس والروح والعباد، وترضي خالقهم جل وعلا.
خيارك بيدك، فإما النار التي تأكلك وتأكل كل من حولك وما حولك، وإما السعادة التي تملأ الخافقين وتجعلك سيدًا في قومك وعزيزًا عند الله.