“إن الغذاء على الأرض سينفد ولا يكفي البشر”، هي المقولة التي رسّخها الاقتصادي الإنجليزي “توماس روبرت مالتوس” فزرع هلعاً بما تنبأ به مند عام 1798م، على شكل نظرية علمية بأن سكان الأرض يتضاعفون على هيئة متوالية هندسية، وأن غذاءها يتزايد على هيئة متوالية حسابية، فلن يفي بحاجات السكان الذين سيموتون جوعًا.
أمام هذه النظرية والجدل الواسع حولها.. لجأ العلماء باستخدام تقنيات حديثة لمحو الهاجس والخوف والهلع من النفوس، فهم يعتقدون أن بإمكانهم تغذية الأرض بأكملها بفعل التقنية البيولوجية.
نقل جينات من كائن حيّ إلى آخر، تقنية أصبحت تثير الخوف والأمل في مختلف مجالات الحياة، موجة قادمة إلينا بزخم وهدير أمواج البحر العاتية، إنها أمواج الهندسة الوراثية أو الجينية، فهذه الأمواج العلمية المتدفقة قد شحنت بفوائد، كما أنها حفت بمحاذير.
المبدأ العلمي يقول: “إنه بتعديل الخصائص الوراثية التي تحملها البذور في المختبرات، يمكن جعل نبتتها وثمارها مقاومة للآفات والحشرات، وحتى الظروف البيئية السائدة، كما يمكن زيادة عدد الثمار في النبتة الواحدة، وإضافة فيتامينات إليها، وإزالة المواد المضرة فيها”..
النتائج تبدو ظاهريًا مبهرة؛ أبقار تدر حليباً أكثر، وحقول ذرة لا تشوبها الحشرات والآفات، وخضار وفاكهة خالية من المواد الكيماوية، وسنابل قمح تحمل حبوباً أكثر من السنابل التقليدية ولكن..
يمكن القول: إن النباتات المعدلة وراثياً (GMO) هي حصيلة الذروة في التقدم العلمي، هذه التقنية في مواجهة الزراعة التقليدية الطبيعية، هو صراع خفي ومحاولة من الشركات الغربية الكبرى السيطرة وغزو الأسواق العالمية سوقاً فسوقاً فسوق.. والتحكم عملياً بمستقبل الغذاء.
الحديث عن أيهما أفضل؛ منتجات الزراعة المعدلة وراثياً؟ أم المنتجات الطبيعية؟ لا يمكن المقارنة لأن الزراعة التقليدية فعلاً طبيعية، والزراعة الصناعية المكثفة هي بالضرورة مضرة بالبيئة والصحة والذوق.
ما هو التعديل الوراثي؟
مع التقدم العلمي في مجال تربية النبات برز دور الهندسة الوراثية والتقنية الحيوية في تطوير بعض المحاصيل لتحسين صفاتها الوراثية،
وتم ذلك من خلال التعرف على الجينات المسؤولة عن أي من الصفات الوراثية المرغوب تعديلها، بتحديد التسلسل الجزيئي للمادة الوراثية (DNA).
التدخل في تغيير وتركيب الجينات في حقل الغذاء يعني تلاعبًا وعبثًا وتدخلًا في خلق الله (عز وجل).
فهل هذه الأغذية آمنة؟ أم يمكنها أن تحمل ضرراً لمن يأكلونها؟
غذاؤنا عاثت به تقنيات المعالجات الجينية، وأفرزت لنا سمومًا ومخاطر صحية وأمراضاً لم نكن نتوقعها، هي حصيلة التلاعب بالمعطيات الطبيعية للزراعة وتربية المواشي.
بداية هذه التقنية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية بعد تمكن كثير من الشركات العاملة في مجال الهندسة الوراثية، من إنتاج بعض المحاصيل المعدلة وراثياً، وحصلت على شهادات فسح من وزارة الزراعة الأمريكية أو إدارة الأغذية والأدوية، بدعم حكومي غير محدود لهذه الشركات، لقد كانت ثمار الطماطم أول ما طرح بالأسواق الأمريكية وكان ذلك في عام 1994م.
من هنا بدأ خبراء الهندسة الوراثية التوصل إلى لغز التعديل الجيني، ونجحوا في إنتاج محاصيل اقتصادية مقاومة للآفات الزراعية أو تحسين وزيادة الإنتاج – أو كليهما معاً – مثل الذرة، والقطن، وفول الصويا، والأرز، والدخن، والبطاطس وغيرها.
قد يحصل لبس بين المحاصيل المعدلة وراثياً والتهجين.
فالتهجين عملية تكوين هجين عن طريق التلقيح الخلطي للنباتات، أو بتزاوج حيونات من أنماط مختلفة،
يلجأ إليه المختصون الزراعيون من أجل تحسين محاصيلهم ويحدث بين سلالتين نقيتين تختلفان عن بعضهما بصفة أو أكثر، وتشتركان في الصنف للحصول على محصول جديد يجمع بين صفات الأب أو يزيد عليها بصفات جديدة، وهذا أسلوب محمود وجيد وليس له أضرار على الصحة، لأن التحور طبيعياً لم يستحث بالنقل الجيني، فاختيار سلالات معينة لها صفات مرغوبة لتتزاوج أو يتم إلقاحها بسلالات أخرى، تحمل صفات مختلفة لإنتاج سلالة تجمع الصفات الوراثية المشتركة من الأبوين، والنتيجة في الأخير هي ما يعرف بالتربية أو التحسين الوراثي.
بينما المحاصيل المعدلة وراثياً ناتجة عن التلاعب في الجينات وإجراء تغييرات في التركيب الوراثي الأصلي لها، مما يؤدي إلى نتائج غير جيدة لها أثر ضار على صحة الإنسان.
الانتخاب الطبيعي والملاقحة بين الأجناس لاختيار أفضل الأنواع وأكثرها إنتاجياً وملاءمة للتربة والمناخ والبيئة..
تستغرق آلاف السنين، أصبح الآن وبفضل الهندسة الوراثية والأبحاث المكثفة يستغرق سنوات معدودة، ولا يكاد يمر عقد من الزمن إلا وتخرج من المختبرات الزراعية أنواع معدلة من الحبوب والخضار والفاكهة ناهيك من الأجناس المعدلة من الأبقار والدواجن والأسماك.
هذا التطوير السريع لأجناس جديدة هو الذي دفع بعض العلماء إلى دق ناقوس الخطر لانعدام الفترة الزمنية الكافية لدراسة الآثار البعيدة المدى لهذه المنتجات المعدلة ليس فقط على الصحة بل أيضاً على البيئة.
والخلاصة أن التحسينات الوراثية على الإنتاج الزراعي لا تشكل أي خطر على الصحة؛ لكونها ملاقحة بين زوجين لإنتاج أجيال محسنة وراثياً.
بينما المنتجات المعدلة وراثياً هي تلاعب وعبث في تسلسل الجينات، هذه التقنية تجعل من الأطعمة أكثر خطورة وتسبب مشاكل صحية كالحساسية، والسموم الكيميائية، وتقليل القيمة الغذائية، وطفرات جينية من البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.
اليوم أصبحنا نشجع العودة إلى الزراعة التقليدية وتُمْنَح شهادات وعلامات مسجلة لكل منتج تتوافر فيه النوعية العالية “الغذاء العضوي”.
يرى جانب من خبراء الزراعة والبيئة والتغذية أن المحاصيل الزراعية المعدلة وراثياً قد خيبت الآمال والتوقعات في أسواق الدول المتقدمة، لدرجة أن مستقبلها أصبح غير واضح الآن، إذ تواجه بمعارضة أوروبية صلدة، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر أنصار التكنولوجيا الحيوية، وأصاب المستهلك الخوف والتشوش، وصار يهتم بمراجعة مكونات غذائه بدقة، ويهربون إلى الأسواق المقامة في المناطق الزراعية بحثاً عن منتجات حقلية لا تستخدم فيها مخصبات كيميائية ولا مبيدات حشرية مكثفة أو تقنية جينية، كما تزايد اتجاه المستهلكين في الغرب نحو الأغذية العضوية أو الطبيعية (ORGANIC) البديل لمواجهة أو التقليل من خطر الأغذية المعدلة جينياً والتي لم تتعرض لأي معاملة كيميائية أو حيوية، وصار الإقبال على تلك الأغذية من قبل المستهلكين في تزايد بالرغم من ارتفاع أسعارها وهذا نتيجة الوعي الصحي والغذائي الذي ساهم في جعل الناس في خوف من استخدام الأغذية المعدلة وراثياً.
الدراسات الحديثة أكدت وجود تفاعل مستمر بين الغذاء والجينات، وخلصت إلى نتائج مقلقة أثارت جدلاً واسعاً وتحذيرات من خطر استخدام الأغذية المعدلة وراثياً، كشف عنها كثير من الباحثين على أن الذخيرة البيولوجية ضارة بالحياة الطبيعية منها ضعف المناعة الطبيعية، والتلوث الجيني للبيئة، وظهور أمراض لم تكن في الحسبان، ومحاولة احتكار زراعة الأرز في الهند، وتناقص أعداد النحل، واستخدام الضغوط ضد وسائل الإعلام والأقلام لإخفاء الحقيقة المثيرة للجدل.
الهيئة العامة للغذاء والدواء وضعت ضوابط وتشريعات تحكم تداول المنتجات المعدلة وراثياً (استيراد، تسويق، استهلاك) وهناك عدة لوائح خليجية منها:
GSO 2142/2011
أولاً: أن تكون الإرسالية المستوردة مصحوبة بوثائق معتمدة ومصدق عليها من جهة رسمية معتمدة.
ثانياً: شهادة تفيد بأن المنتج يتم إنتاجه واستهلاكه في بلد المنشأ.
ثالثاً: يجب ذكر عبارة “منتج محور وراثياً” بخط واضح يسهل قراءته ويصعب إزالته وفي مكان بارز وبلون مختلف عن لون البطاقة.
رابعاً: إذا كان المنتج مصنعًا ويتكون من أكثر من مكون، وأحد مكوناته أو أكثر محور وراثياً يكتب اسم المكون بين قوسين عبارة “محور وراثياً”.
خامساً: المنتجات الزراعية غير المصنعة كالحبوب والثمار وتباع بالوزن أو العدد أو بالحجم في الأسواق تعرض في أماكن مستقلة عن مثيلاتها التقليدية، ويتم كتابة عبارة “المنتج محور وراثياً”.
إن ضبط انتشار وتداول الأغذية المعدلة وراثياً يأتي كجزء من حماية المستهلك، ومختبرات الهيئة العامة للغذاء والدواء قادرة على فحص تلك الأغذية بواسطة أجهزة آلـ(PCR) للكشف على التغيرات والتلاعب في الحمض النووي الـ(DNA)، وخصوصاً تلك التي تستورد عن طريق مطاعم الوجبات السريعة العالمية والتأكد من خلوها من منتجات التعديل الوراثي، ومن ثم إلزام المستوردين بضرورة التقيد بالتعليمات الخاصة بهذه النوعية من الأغذية ويكون المستهلك على علم ومعرفة بهذه التقنية قبل استهلاكها.
أما الثمن.. فهي ضريبة التقدم العلمي للأسف؛ المزيد من أمراض تواجه الإنسان يصعب علاجها، وأغلبها ناتجة عن المعالجة الخاطئة أو لتحقيق مكاسب مادية وسياسية من خلال احتكار وتحكم الشركات العملاقة ومعامل التجارب الجينية في غذاء الشعوب كشركة مونسانتو الأمريكية (Monsanto) الرائدة في هذا المجال، وشركة (إسكاجين) الأمريكية للتكنولوجيا الحيوية، إلى جانب شركات ومختبرات بريطانية.
نحن بحاجة إلى ثقافة صحية واعية، تهدينا بتطبيقها حياة أفضل.. وأن نقرأها قراءة صحيحة، ونقيَّم مصداقيتها، ونتعامل معها بموضوعية، فلا نسير معها لأقصى اليمين فنصاب بالحيرة على الأقل!
ونترك خيارات آمنة، بل وأحياناً خيارات مفيدة وضرورية لصحتنا، ولا نسير معها إلى أقصى اليسار، ونتجاهل أصوات تحذيراتها، فنلحق بصحتنا الضرر.
“أضخم إنتاج في أسرع وقت” دون الاهتمام بخطر ما تحمله تلك الثقافة على صحة الإنسان.. أصبحنا في حلبة صراع لا يرحم..!
منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات