إن صيام شهر رمضان مفيد للإنسان، فبجانب كسب رضا الله عز وجل، هناك الكسب الصحي الذي يناله المسلم من صوم شهر كامل، حيث يوفر فرصة عظيمة للشفاء أو تقليل مخاطر الإصابة بكثير من الأمراض، لهذا لابد من الاعتدال في تناول الطعام.
كثير من الصائمين في هذا الشهر الفضيل نجدهم يمارسون سلوكيات غذائية وصحية خاطئة، الكسل والخمول والنوم من سمات نهار رمضان، والسهر والأكل والشرب من سمات ليلهم القصير، والنتيجة كثير من الناس تزداد أوزانهم مما يتسبب عنه مشاكل صحية ونفسية.
على أني بعد هذه المقدمة يهمني جداً أن أتحدث عن مشكلة صحية شغلت بال الكثير من الناس، وقد خلقت الكثير من الجدل والخلاف حول أسبابها وكيفية معالجتها.
وسبق أن كتبت مقالاً يناقش الطرح نفسه تحت عنوان “السمنة مرض العصر.. ولي رأي!”، إلا أنني أرى اليوم الطرح بحاجة إلى إضاءة جديدة، سيما وأن المقال سيكون في قناة أكثر انتشاراً.
إنني أؤمن بأن هناك هالات وأوهامًا وخزعبلات واهية كدست مفاهيم وفرضيات بنيت عليها حقائق ونظريات خاطئة، وباتت المقالات والمؤلفات في عالم السمنة تغمر الأسواق ومواقع التواصل الاجتماعي الكل يدلو بدلوه، وللناس أن تستمع وتستنتج ما تريد، ولكن هناك قواعد عامة للتثبيت وتأكيد ما نسمع أو تثبيت استنتاجاتنا.
وقد أصيب البعض بخيبة أمل بعد فشل تجربتهم أو محاولتهم العلاجية.
ولا يخفى على أحد ما يترتب على هذا الفشل من توتر وقلق يساهمان في نشر الأمراض النفسية.
وهذا ما دفعني للتحدث عن مشكلة السمنة – أسبابها ومشاكلها وكيفية معالجتها – وسنقف موقفاً مبنياً على رؤية متوازنة لعل ذلك ما يعنينا.
بنظرة متأملة واحدة إلى الجسم الإنساني، يقف الناظر مذهولاً أمام النظام العجيب الذي خلقه الله فأحسن خلقه، هذا صنع الله سبحانه وتعالى، {هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} 11 سورة لقمان.
حصنه من الأمراض والأخطار وسخر له وسائل دفاعية هائلة.
داخلياً في جسم الإنسان كالجلد والأغشية المخاطية والأجسام المضادة، وخارجياً وهبتها الطبيعة، في الطبيعة تتواجد فيضاً من نعم الله سبحانه وتعالى، النعم التي جاد الله بها علينا، فيها الدواء والشفاء.
الغذاء الطيب يمثل دواء شافياً، نحن حولنا النعم التي سخرها الله لنا بجهلنا ومبالغتنا تحت شعار نضوب الموارد الطبيعية والأمن الغذائي، حولناها إلى معاول تعمل في أجسامنا تخريباً بخلاف خيار الطبيعة مما تسبب في إضعاف المناعة الطبيعية واضطرارها للاعتماد على الأدوية بدلاً من وسائل الدفاع الخلقية التي جهز الجسم بها.
نبني الأجسام بناءً قوياً فعالاً، ونحميه بالغذاء الطبيعي الغني بالعناصر الضرورية من الدهون، والبروتينات، والسكريات، الفيتامينات والمعادن والألياف والماء وغيرها.
ولكل عنصر من تلك العناصر وظائفه وفوائده، فالجسم يستمد طاقته مما يتناوله من دهون وسكريات من أجل مساعدته على القيام بالعمليات الحيوية، والبروتينات تقوم ببناء الجسم وتعويض الأنسجة المفقودة، أما الفيتامينات والأملاح المعدنية فهي تحمي الجسم من الأمراض، والألياف تساعد على مقاومة الإمساك والوقاية من السرطان، والماء ودوره الكبير في العمليات الحيوية، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.
وحينما تحرم أجسامنا من عنصر أو أكثر من العناصر الغذائية بحجة ما يحمله هذا العنصر أو ذاك من مضاعفات أو مشاكل صحية، فمن الطبيعي أن يحدث خلل في الميزان، ونكون قد أسأنا إلى صحتنا، ونتجرع من خلالها مرارة الحرمان وقد يصاحب ذلك ضجر وملل باعتبار أن المحرومين لم يعودوا طبيعيين.
بلا شك أن الإساءة مرتبطة بالسلوك وطريقة التعامل مع الغذاء كالإفراط أو النقص أو التركيز في نوع محدد من الأغذية، تلك هي خلاف ما جاءت به سنن الطبيعة، فالإفراط في تناول الأغذية يتبعه حتماً علل ومتاعب صحية {كلوا واشربوا ولا تسرفوا}.
ومع غياب الوعي والتثقيف الصحي غذونا نشفق على أنفسنا وأجيالنا القادمة من مضاعفات صحية أوقعتنا في العديد من الأمراض، وعلى رأسها اضطرابات الهضم والسمنة وما ترتب عليهما من ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب والعظام والمفاصل وصعوبة التنفس.
نحن نرى معظم الأنظمة الغذائية والحميات ينصب جل اهتمامها في محاولة إنقاص أو إيقاف زيادة الوزن دون البحث عن السبب الذي نتج عن ذلك، فهناك عوامل قد تهيئ الجسم لزيادة وزنه منها، وراثية، بيولوجية، نفسية، اجتماعية، وبيئية، والأكثر شيوعاً وتأثيراً مرتبط بنمط الحياة الحديثة.
إن اللجوء إلى الحميات التي يتم تسويقها لإنقاص الوزن قد يرضي البعض كونها تعطي نتائج إيجابية، بينما نرى في مكان آخر فشل في حماية الجسم من الآثار الجانبية التي تتبعها.
بعض الشركات ومراكز الأغذية الصحية تروج لحميات ومستحضرات إنقاص الوزن دون إدراك ما إذا كان هذا النقص قد يتبعه مضاعفات صحية، المهم هو السعي وراء الكسب المادي، والبدناء بحكم حاجتهم لهذه النوعية من الطرائق يقعون في فخ الترويج والإعلانات.
فالحمية المعتمدة على البروتين سببت إجهاد الكلى واضطراب الجسم، بينما الحمية المنخفضة الكربوهيدرات والنشويات والسكريات أجبرت الجسم على استهلاك الدهون المخزنة واحتراقها احتراقاً غير كامل مما نتج عنها مركبات حمضية سببت حموضة الدم ونتج عنها مشاكل صحية أهمها ضعف المناعة.
هناك حميات أو أنظمة عالية الدهون ومنخفضة الكربوهيدرات “حمية دهنية مثل الكيتون – واتكينز – وباليو – وتستخدم كوسيلة علاجية في حالة داء السكري كون تلك الأنظمة تعمل على خسارة الوزن يتبعها انخفاض في السكر فقط، بينما الجسم يظل يصنع الجلوكوز من الدهون والذي بدوره سيرفع إنتاج الأنسولين، ولكي نتفادى تلك السلبية ينصح بممارسة النشاط البدني والصيام “صوموا تصحوا “.
وفي حالة اتباع حمية عالية الكربوهيدرات أو الحمية السكرية فالكثير يجمع على أنها المسؤولة عن أمراض القلب.
في الواقع جميع الحميات سببت خللاً وإرباكاً في قدرة الجسم على مقاومة الأمراض، أي أننا استبدلنا مرضاً بمرض آخر.
الميل إلى استخدام طرائق أخرى لخفض الوزن كالأدوية والمستحضرات الطبية التي يعمل بعضها على سد أو تقليل الشهية مثل كبسولات بديلة لعمليات البالون والتكميم، ومركبات الأمفيتامين، كثيراً ما يتسبب عنها القلق الزائد وسرعة ضربات القلب وعدم انتظامه وتؤدي إلى الإدمان.
نعم يصعب تقويم مأمونية وفعالية الدواء الذي يروج له عبر وسائل الإعلام، لنكتشف بعد فترة من تسويقه وتداوله عن أخطار جسيمة ومضاعفات صحية، والدليل على ذلك قرار سحب عقار ديكسفين (Dexfen ) الذي يؤخذ من أجل إنقاص الوزن، بسبب مشكلات ثقب صمام القلب، وهناك عقار جديد باسم ساكسندا Sexenda له القدرة على محاربة السمنة، المخيف في هذا العقار مقدار الوزن المفقود في فترة قصيرة (٤٠ كجم في ثلاثة أشهر)، بالتأكيد مقدار الفقد سيتبعه تغير كبير في شكل الجسم وقد لا تظهر الآثار الجانبية في الحال.
لا يكفي أخد العقار أو تداوله بمجرد إقراره من الجهات الرسمية أو التشريعية دون إعطاء الوقت الكافي لإجراء الدراسات والتجارب عليه، فكم من عقار سمح به، ثم بعد سنوات اكتشف ضرره صحياً.
إن الصورة العملية لمن أراد أن يخفض وزنه تكمن في البعد عن جميع الأدوية والعقاقير الكيميائية لما لها من آثار جانبية ضارة، والحقيقة لا يوجد دواء يعمل على إزالة أو التخلص من المرض نفسه وإنما إزالة العارض المرضي فقط.
شكلت تلك المستحضرات قلاعاً ضخمة من المصالح المادية رغم نجاحها العلاجي المحدود ولكن على حساب صحة الإنسان نتيجة التراكمات السلبية والمضاعفات وأخطرها التأثير على مناعة الجسد.
وعليه فقد فضل البعض الحل الجراحي كشفط الدهون – وربط المعدة – وتكميم المعدة (استئصال جزء من المعدة) – وإدخال بالون للمعدة، هذا الإجراء نتج عنه مضاعفات مثل ترهل الجلد والشحوب والضعف وعدم القدرة على التركيز والإجهاد، إضافة إلى تغير الصورة الجميلة التي وهبها الله تعالى لنا.
والأخبار تتوارد حيال فشل استخدام العلاج الجراحي، فقد أعلنت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية FDA في ( Jun 04 2018) بوجود خمس حالات وفاة نتيجة زرع بالون المعدة.
وهناك طرائق أخرى لا يتسع المجال للتحدث عن سلبياتها كالجوع الشديد، أو استخدام الخلطات والزهورات العشبية، والمستحضرات المجهزة، والعقاقير حارقة الدهون، ومراهم لإذابة الدهون، والأدوية التي تعمل على التخلص من سوائل الجسم عن طريق الإسهال والتعرق، وأخيراً حقن الهرمونات.
جميع تلك الطرائق والحميات غير آمنة وغير متوازنة أو تأخذ صفة تجارية وثبت عدم نجاحها وآثارها الخطرة، وتفتقر للواقع العملي، لقد سئم الناس من جميع تلك الأساليب والطرق والمعالجات الفاشلة.
إننا دوماً لا نبحث عن سبب زيادة الوزن وإنما العارض وهو كيف نخفض الوزن، فكون الشخص يشكو من زيادة الوزن يعني أنه بحاجة إلى العلاج، كما أن الحميات لا يمكن تطبيقها على جميع الأفراد لاختلافهم في القدرة على مقاومة المرض.
ومقولة “الوقاية خير من العلاج” شعار صحي يمكن تطبيقه عندما يكون الشخص لا يشتكي من أي أمراض تحول دون حرمانه من أي عنصر غذائي هو موجود في الغذاء الطبيعي بنسبة مقبولة صحياً – إذا أخد ضمن وجبة متوازنة دون المبالغة أو الإفراط ليظل الوزن في المستوى المطلوب.
هنا نبحث عن السبب الفعلي الخفي وراء ازدياد الأوزان ومشاكل السمنة، هي سلوكيات وأنماط حياتية حديثة التي وفرت لنا قائمة من الأطعمة المصنعة والمعالجة المليئة بالإضافات والمواد الكيميائية التي صنعها الإنسان.
هناك توصيات من منظمة الصحة العالمية بضرورة العودة إلى الطبيعة أو الغذاء العضوي لأن فيه السلامة والأمان والصحة.
التغذية من مصادرها الطبيعية تحافظ على القوة والنشاط والحيوية وتدفع عنا الأمراض، تلك هي علامات الصحة الجيدة.
الغذاء الصحي يجب أن يتضمن جميع العناصر الغذائية الطبيعية وتجنب قدر الإمكان الأغذية المحفوظة والمشروبات الغازية المليئة بالألوان والمحليات الاصطناعية، والوجبات السريعة الخاوية من القيمة الغذائية، المليئة بالزيوت المهدرجة والخلطات السرية، و كذلك طريقة إعدادها وتحضيرها الضارة بالصحة، وفي المقابل الميل للوجبات المنزلية لضمان جودة الطعام وسلامته.
كما أن الإفراط في تناول الأطعمة مع قلة النشاط والحركة أنتجت مضاعفات صحية غيرت في ميزان الجسم.
نتذكر أيام زمان حينما كان الغذاء الطيب المشبع بالسمن البلدي والمستخلص من حليب أفضل القطعان، يمثل دواءً شافياً.
أين نحن من تلك الأيام التي كانت النحافة عيباً والسمنة عنواناً للنعمة والثراء؟!
لقد دار الزمن دورته وبعد أن كان كثير من الأمراض سببها الجوع وعدم تكامل الغذاء وكفايته، أصبح اليوم غالبية أمراض العصر من كثرة الطعام وتنوعه والإغراق فيه.
منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات.