ميراثنا متخم من سلوكيات تهجو أزمانها ورجالها المتلونين، وقصص نساء الكيد العظيم. ومن يتصفح كتاب البخلاء للجاحظ، وكتاب أخبار الحمقى والمغفلين (لابن الجوزي)؛ سيجد فيهما ما لا يتوقع من السلوكيات الغريبة، نضحك منها وعليها ونستنكرها، ومن حيث ندري ولا ندري، نسير على منوالها، كتاب (مقدمة بن خلدون) فيه وصف لسلوك المجتمعات من بيئات مختلفة، ووصف وتشريح للسلوكيات المتناقضة والمتنافرة ومن ضمنها تركيز على أخلاقيات الشعوب العربية. وكم يزخر تراثنا بسير الأولين وشخصياتهم المزدوجة، وذات الأوصاف التي وصمتهم انحطاطًا، توارثناه منهم جينيًا، نعتقد توهمًا بتحضرنا عنهم لكننا لم نتحضر، شاهد القول: إن طبيعة السلوك البشري قائم على المتناقضات والمفارقات والإشكالات، والإيجابيات المتوهمة، فشغلنا الشاغل القدح والذم والهجاء والتذمر والحسد والكيد… إلخ من السلبيات المقيتة، لا الأحاديث النبوية نهتنا ولا الآيات القرآنية ردعتنا، نستعيذ من الشيطان لفظًا، ونصاحبه ودًّا، ننسى إنسانيتنا في لحظات، ونقول: خلقنا ضعفاء، ومن غير شك ثمة سلوكيات غير مقبولة نمارسها قصدًا ولا نعترف بأنها خاطئة فها هو (فن الكاريكاتير) يترصّدنا في نقده اللاذع لتصرفاتنا المتناقضة، وكذا الرواية التي تخترق التابوه وتعري أمراض المجتمع وتكشف حتى عن سوأته المعيبة، وكذا (فن الكوميديا) الهادف وليس تمثيل الإسفاف والتهريج، بالفعل تجعلنا نضحك ليس على الآخرين فحسب بل نضحك على ذواتنا المترنحة بين الأمزجة المتغيرة والأهواء المتقلبة، فمن الصعوبة بمكان تعديل السلوك وفق نظرتنا القاصرة، ومن أراد أن يقوّمه كمن يمسك الهواء باليد.
حياتنا مليئة بالعجائب والغرائب، نخادع أنفسنا بلبس الأقنعة الملونة الزائفة في كل لحظة وموقف، ونقول: نحن لا نكذب بل تنميقًا نتجمل.
حقيقة؛ إن ضبط إيقاع البشر وفق ما نشتهي ضمن رؤية أخلاقية محددة المقاييس والأطر، هي مجرد نظرة رومانسية حالمة، لأن السلوك متذبذب، وما أعتبره سلوكًا خاطئًا في مجتمع ما، هو في نظرهم حسن ومقبول لديهم، والعكس صحيح، وحتى بعض السلوكيات عندنا متغيرة ننتقدها لفترة ومع الوقت نرضى عنها، وكم من ممارسات نظنها مشينة ثم مع مرور الأيام نتقبلها، وكم من مستجدات في البدء مستهجنة وننفر منها وسرعان ما نأخذ بها طوعًا، وأيضًا تتراجع سلوكيات وتتقدم أخرى حسب المطلب المعيشي والمتغير الزمني، السلوكيات تمدد وتتقلص حسب مفاهيمنا التي لا تستقر على حال.
مسألة أن يعيش جميع البشر ضمن أخلاقيات وسلوكيات وفق ما نشتهي ضمن (المدينة الفاضلة)، مجرد أمانٍ وبلوغ أحلام لا تتحقق إلا بالكلام فقط، وهل صحيح “نعيب الزمان والعيب فينا”؟ وهل نتقبل نقد المنتقد لعيوبنا من منطلق (رحم الله أمرؤ أسدى إلي عيوبي)؟ أم نضيق ذرعًا من النصيحة ومن هو الناصح والمنصوح؟ وهل أتقبل النصح من شخص قريب مني أو بعيد عني أو أصغر مني سنًا أو أدنى مني مرتبة؟ أم تأخذني العزة بالكبرياء والأنفة؟ وهل أستطيع أن أتقبل النصح طوال الوقت وفي أي ظرف وفي كل مناسبة وفي كل شاردة وواردة، مشكلتنا الأزلية أن كل واحد منا يرى نفسه بلا نواقص ودون عيوب إلا ما رحم ربي! وفي نفس الوقت نريد أن نصلح البشر بنصائحنا التائهة،
يقول تولستوي: “الجميع يفكر بتغيير العالم لكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه”، وأي تغيير ننشده وبأي كيفية نريدها مع النصح أو دونه؟!
يتفاقم الجدل بين السلوك والنصح ويتواجهان على قارعة الزمن، وكل يشير للآخر، وبصوت واحد: من هو صاحب السبق فينا (أنا أم أنت)؟
صاح النصح: لا يهم أن أكون قبلك أم بعدك، المهم أن أتبعك وأترصد حركاتك وألفاظك وأقوّمك إن كنت تريد، أجاب السلوك: لن تستطيع اللحاق بي حتى لو أصبحت ظلي؛ لأن تركبيتي معقدة لا أستقر على حال، متقلب صعودًا ونزولًا كاستيلاء المرض في الجسد، وهل يوجد جسد لا يمرض ولا يهرم؟!
أما سمعت كلامهم: “يالله بحسن الخاتمة”، لماذا يقولون ذلك؟ الجواب عندك أيها النصح.
بأنفاس الشهيق والزفير وما بينهما من ثوانٍ، ثمة نصائح جوهرية لا تأتي للسلوك، فالسلوك هو من يبحث عنها، تلك هي نصائح الحكمة، عابرة للأزمنة والأمكنة وهي بلسم وشفاء تلامس شغاف القلوب وتستوطنه دون استئذان وسيدرك جدواها حتى الأشقياء وإن لم يعملوا بها، أما نصائح التيه فتذبل وتسقط أرضًا، كأوراق الخريف تذرها الريح.